صاغ المستعمر قوانين الإدارة الأهلية بنهج معيب جعلها أشبه بالقنابل الموقوتة و التي حتما ستنفجر يوماً لتنسف الأمن و الإستقرار فأنشأ كيانات كبيرة باسم بعض القبائل أطلق عليها نظارة ضم إليها قسراً القبائل الأخرى كما أنه ربط هذه الكيانات الكبيرة بالأرض التي تقع فيها و هو ما جعلها تتصرف كصاحبة لهذه الأرض وتعتبر كل من لا ينتمي اليها نازحاً تمت استضافته بتلك الأرض و هذا الوضع قد خلف ورائه مشاكل كثيرة بين القبائل الأمر الذي دفع تلك القبائل لتعارض تلك القوانين معارضة شرسة لدرجة أنها بادرت بتأييد مذكرة الحزب الشيوعي الذي كان ممثلاً في حكومة الهيئات حيث شغل ممثله الشفيع أحمد الشيخ وزير شئون الرئاسة ، حيث تقدم بمذكرة في 25/1/1965م إلى مجلس الوزراء وصف فيها الإدارة الأهلية بالتخلف و إنها صنيعة الإستعمار لإضعاف الحركة الوطنية ثم قوتها الحكومات الوطنية المتعاقبة و دعمتها حكومة الدكتاتورية العسكرية واستفادت منها أيما فائدة كما وصفها بأنها نظام أعاق التطور في الريف و هو نظام بيروقراطي استخدم لظلم الشعب و إذلاله و كبته و نهب ثرواته و طالب بإلغاء الإدارة الأهلية في شمال السودان و تصفيتها و توزيع سلطاتها للجهات القضائية و التشريعية و الإدارية و إلغاء قوانينها و تكوين لجان لمحاسبتها و معاقبتها
أما جبهة الميثاق الإسلامي فقد كانت ترى في الوفاق الذي كان موجودا بين رجالات الإدارة الأهلية و بعض الأحزاب السياسية لا سيما الحزبين الكبيرين : الأمة والإتحادي ، عقبة كأداء في طريق المد الإسلامي و تعيق وصوله إلى الريف الذي كان يشكل القاعدة الرئيسية للنظام الأهلي لذلك جاءت معارضتها للإدارة الأهلية و السعي للإلغائها أو تصفيتها .
كذلك كان للقضاة آنذاك رأيهم المناوئ للإدارة الأهلية إنطلاقا من الناحية المهنية حيث نادوا في مؤتمرهم الذي عقد في ديسمبر 1964 بفصل القضاء عن الإدارة الأهلية وتحويل ميزانية المحاكم الأهلية للقضاء و حرمان العمد والمشائخ من رئاسة المحاكم الأهلية .
و في العهد المايوي الذي يعتبر مرحلة لتنفيذ شعارات ثورة إكتوبر والتي في مقدمتها تصفية الإدارة الأهلية صاغت ثورة مايو جملة من الإتهامات لتبرر إتخاذ قرارها لتصفية الإدارة الأهلية ومن ضمن هذه الإتهامات :-
• إن الإدارة الأهلية أسلوب حياة جامد بني على جهل رعاياه و عزلهم عن الحركة العامة في المجتمع .
• إنها إمتداد طبيعي للتربية الإستعمارية ووسيلة متخلفة للحكم فات أوانها .
• تأثيرها السلبي على تجربة الديمقراطية مثل تأثيرها على أسلوب الانتخابات الحرة المباشرة و ذلك بحجب الجماهير عنها .
• ظهورها بمظهر الإستبداد الفردي و معاداة الوعي و الإدراك خاصة في المناطق النائية .
• إرتباطها بالرشاوى و الأتاوات و الفساد و إعتمادها في معيشتها على رعاياها .
إعتماداً على هذه المبررات و إستناداً عليها إتخذت ثورة مايو جملة من القرارت تجاه الإدارة الأهلية ففي عام 1970 حلت الإدارة الأهلية حلاً جزئياً كما أقرت ضمن قراراتها الرامية لحل الإدارة الأهلية بمبدأ الفصل بين السلطتين الإدارية و القضائية و استعاضت عن هذه المؤسسات القبلية بمجالس الحكم المحلي بمستوياتها المختلفة
أما في عهد الإنقاذ و إن كانت قد بدأت متحمسة لإعادة الإدارة الأهلية حيث أصدرت تشريعان هما : مشروع قانون الإدارة الأهلية لسنة 1990م الذي لم ير النور و مشروع الإدارة الأهلية لسنة 1991م الذي حظي بالنقاش الجاد في مؤتمر الإدارة الأهلية الذي عقد بقرية نعيمة بالولاية الوسطى آنذاك ولاية النيل الأبيض حالياً حيث أمن المجتمعون على أهمية دور الإدارة الأهلية في تنظيم نشاطات الأفراد في المجتمعات القبلية واعترفوا بضرورة وجودها فتمت إعادتها و سنت لها القوانين المنظمة لها بكل ولاية وفقاً للظروف الخاصة بها إلا أن تلك القوانين قد صيغت على نفس النهج الإستعماري المعيب و مما زادها سوءاً هو أنها قد فصلت على الكيانات القديمة دون مرعاة لحقوق القبائل الأخرى التي كانت ترزح تحت مظلة تلك الكيانات و تسعى لتأسيس كيانات أهلية خاصة بها و هو ما جعل تلك القوانين سيوفاً مسلطةً على رقابها كما أن تلك القوانين قد ساعدت في تعزيز الجهوية و التعصب القبلي كما أن تقسيم الولايات قد أسهم هو الآخر في تعزيز و تقوية تلك الروح حيث جاء تقسيم الولايات على أساس قبلي فأصبحت كل ولاية تمثل مركز ثقل لقبيلة أو قبائل بعينها و بالرغم من أن الزمان قد تغير و أن الناس قد تغيروا أيضاً حيث لا توجد قبيلة ترضى لنفسها اليوم بأن تكون تحت مظلة كيان أهلي لغيرها إلا أن قادة الإدارات الأهلية القديمة لايزالون تحت تأثير تلك القوانين التي منحتهم سلطات و صلاحيات جعلت منهم دولة داخل دولة و حكومة داخل حكومة بل أصبح لهم تأثيرهم الذي تتحسب له حكومات الولايات و إنه بسبب هذه القوانين فقد أصبحت الإدارة الأهلية ووفقا لفهم قادتها التقليديين ، أحد أكبر مهددات الأمن و الإستقرار بالبلاد و الدليل على ذلك النزاعات القبيلية المتكررة التي شهدتها البلاد خلال العقود الماضية
فلابد من إعادة هيكلة الإدارة الأهلية و ذلك بتعديل القوانين المنظمة لها بحيث تجرد الإدارة الأهلية من أي سلطة على الأرض و تمنح الفرص لأي مكون قبلي يريد أن يؤسس لنفسه إدارة أهلية خاصة به بعيداً عن هيمنة النظارات التقليدية ذلك لأن قوانين الإدارة الأهلية المعمول بها حالياً قد أعيد صياغتها على نفس النهج الإستعماري الذي أنشأ كيانات أهلية كبيرة باسم بعض القبائل ملكها الأرض و فرض على القبائل التي تقيم في تلك الأرض ان تكون تحت إمرة تلك الكيانات و ليس لها الحق في تأسيس كيانات خاصة بها و بالرغم من أني أرى أن يستمر الوضع الحالي للإدارة الأهلية على أساس أنها شأن ولائي أرى أن ينشأ مجلس أعلى للإدارة الأهلية يتبع لديوان الحكم الإتحادي ليساعد في تنظيم و تسيير و تطوير عمل الإدارة الأهلية و الخروج بها من دائر فض النزاعات إلى ساحات أرحب لخدمة مجتمعاتها و تتطورهم و نهضتهم .