الاثنين، 4 مارس 2019

أوراق من ذاكرة أمدرمان:الشاعر الأم درماني ابراهيم الرشيد في حوار مع «الوطن» - (الحلقة الثالثة )


 نادي الممرضين بسنجة كان نقطة إنطلاقي في كتابة الأغاني..
ابراهيم الرشيد أحمد حامد، من مواليد بيت المال في أول يوليو 1932.درس الكتاب بمدرسة الهداية الأولية والوسطى بالاحفاد. اجتاز امتحان السكرتير الإداري بدرجة ممتاز، كما اجتاز امتحان الشهادة السودانية بدرجة جيد جداً. التحق بهيئة البريد والبرق في 1950. وتدرج في سلم الوظيفة حتى درجة وكيل وكان آخر مكتب عمل به هو بريد و برق الموردة في 1969 -1963 ثم التحق بهيئة الطيران المدني في 1970 واستمر بها حتى 1992 حيث نزل المعاش الإجباري ؛ وآخر وظيفة كان يشغلها هي باشمهندس لاسلكي طيران. . . . . بعد تخرجه من معهد الطيران المدني سافر في بعثات خارجية أوربية وكذلك الى جمهورية مصر العربية والعراق واليمن.
* توقفنا في الحلقة الفائتة عند التحاقك بمعهد البريد والبرق ماذا بعد تخرجك؟
- تخرجنا في معهد البريد والبرق في أول مارس 1950، وكان يقع في مدينة أمدرمان محطة ود البنا وبعد اجتيازنا الامتحان بسلام تم إعلاننا بالنقل إلى مدينة سنجة وبالفعل كان الاستعمار ينقل الطلبة الخريجين المستجدين للعمل بالاقاليم لاكتساب الخبرة، وجاء دوري في أن أغادر أمدرمان لمدينة سنجة ولم أكن أعلم عنها سوى الخرطة، فسألت من سبقوني بالسفر إليها عن الرحلة كيف تبتدئ وأين تنتهي لأكون على بينة، فقالو ا لي بعد أن تستقل القطار من مدينة الخرطوم لتصل محطة السوكي بعدها تنزل تقابل وكيل بريد السوكي وهو سيوجهك لبقية مراحل الرحلة، وكان الوقت خريفاً و وصلت لمحطة السوكي بعد رحلة طويلة وشاقة و عندما نزلنا بمحطة السوكي لم نجد من يدلنا على مكان سكن السيد وكيل بريد السوكي، وكان المطر ينزل بغزارة وثيابي معطونة بالماء، فوقفت تحت صهريج ماء كبير ليقيني شر المطر، وكنت في هذا الأثناء أتجول تحت هذا الصهريج وكانت الرابعة صباحاً.
* وماذا كان تصرفك حيال ذلك الموقف الصعب؟
- لحسن الطالع فقد أتى إمام المسجد فقد غادر بيته للذهاب للمسجد، وكان بيته قريب من موقعي تحت الصهريج فأغترب مني وقال لي  (انت أنس ولا جن يا زول الموقفك في البرد و المطر الشديد دا شنو؟ ! فقلت له أنا موظف جديد منقول من الخرطوم لسنجة وأنا لا أعرف شئ القطر نزلنا هنا وقال دي سنجة، فضحك وأخذني من يدي وأدخلني منزله القريب وأرسل ابنه أحضر لي ملابس جافة خشية أخد برد، وطلب من أهل بيته أن يعملوا لي شاي، فقد كنت ارتجف من البرد، وذهب للمسجد وبعد عودته بدأ يدردش معي ونحن نتناول كاسات الشاي أبو حليب وكان يسألني وأجاوب... انت من وين.. وخشيت البريد كيف؟ وبدأ ينصحني ويعطيني تجربته في الحياة عندما كان في سني.
فشكرته على هذا الاهتمام، ولما أشرقت الشمس أرسل ابنه إلى منزل الوكيل ليخبره انه قد أتى موظف جديد من الخرطوم للعمل بسنجة، والرجاء الحضور للأخذ بيده إلى موقع العمل.
فالمسئول كان يصلي الفجر مع الإمام فأتى مسرعاً وأخذني من يدي واتجهنا إلى منزله العامر ولم يقصر في إكرامي، وفي تمام السابعة صباحاً أخذني إلى داخل محطة السوكي الحقيقة. وكانت واقعة على النيل ، وأوضح لي أنني في غرب النيل وساعدني بمركب للشرق، فركبت المركب و ودعته وكانت بالمركب أكياس البريد التي تحمل بريد سنجة، ونزلت هناك وكانت هناك عربة بسائق لاستقبال وأخذ البريد من المركب وبعض الركاب الذاهبين لسنجة، فكنت ضيف الشرف بالعربة، فأخذت الرحلة مسافة ساعة من الموقع إلى سنجة، ونزلنا أمام مكتب بريد سنجة، فأتى إلينا وكيل البريد وسألنا ماذا نريد فأخبرته بأنني موظف جديد من الخرطوم منقول إلى مكتبه، فأجابني انه لم يأتيه إعلان من الخرطوم بخصوصي وأنه متأسف لن يقبلني.
* وماذا كانت ردة فعلك تجاه هذا الموقف؟
- كان موقع المكتب في طرف شاطئ البحر في جزع شجرة وبدأت أفكر ماذا أفعل وحاولت أن أتحسس أين يقع مكان التلفون وأخيراً وجدت مكتب وبه موظف من أبناء أمدرمان يدعي يوسف عبد اللـه فعرفته بنفسي وأخذني إلى داخل المكتب وأكرمني بكوب من الشاي، وسردت له قصتي مع الوكيل فتألم لذلك جداً وعلمت منه أن هذا الوكيل غير محبوب في مدينة سنجة، فقال لي أنا حأضرب ليك تلفون للسيد مدير البريد والبرق بالخرطوم وهو السيد سليمان حسين فأحكي له قصتك وبالفعل تحدثت للسيد المدير بما حدث معي فتألم جداً جداً وطلب من الأخ يوسف أن يوصله من الكبانية بوكيل البريد فسأله عن مكان مولده ثم سأله  (هل بتعرف عادات السودانيين لما يجيهم ضيف بيستقبلوهو كيف؟ فرد عليه بأنه يعلم جيداً، فقال له  (طالما بتعرف طيب زول جاك قاطع مسافة يومين سفر. . بتستقبلو وتكرمو وترحب بيهو ولا تجاوبو بكلام جارح؟
فأعترف الرجل بغلطته و وعد بفتح البريد الذي وصل لتوه من الخرطوم محتمل يكون خطابه من ضمنه، فقال ليهو المدير  (أول حاجة تعتذر للزول دا وبعدما تفتح أبواب البوستة تأكد أن خطاب هذا الموظف وصلك اتصل عليّ فوووراً.
* ثم بعد؟
- بالفعل عندما فتح الوكيل البوستة وجد إعلامي موجود واتصل بالسيد المدير واعتذر فوضح له المدير أن البريد والبرق مشهود له بسماحة الأخلاق والتميز في كل المحطات وسأله المدير عن مسقط رأسه فقال انو قبطي ولد في اسينا بمصر وأسرته جات للسودان بعد المهدية ، وهنا ضحك السيد المدير وقال له  (طيب الأقباط ديل ناس متسامحين وبشوشين انت جبتا اللائمة دي من وين؟ وطلب منه أن يستعد للنقلية القادمة إلى توريت في جنوب السودان وذلك سيأتيه في إعلان البريد القادم، وطلب من يوسف أن يعطيني الهاتف وقال لي  (يا ابني أنا بعتذر ليك بالنيابة عنو لأني متأكد حتكون انجرحت وأنسى الحصل في الحال وأقبل على مهنتك الجديدة وكل شهر حاول اتصل بي أعرف أخبارك ماشي كيف، فشكرته على اهتمامه وقال لي  (أنا عايزك تمشي في نفس الخط لوكلاء البريد الآخرين ولا تتأثر بهذة الحادثة واعتبرها طارئة.
 فعلا بعد اسبوع أتانا رجل مسالم وذو خلق ورعانا رعاية كاملة وقال لي  (أنا ما حأحوجك لتشتكي المدير تاني وانت مثل ابني )وفعلا كان ذلك فأنخرطت مع بقية الموظفين في مكتب بريد سنجة وكانت حسن المعاملة وحسن الاستقبال طوال هذه الفترة عنواناً إلى أن تم نقلي بعد سنة ونصف.
فكانت عنواناً للاخاء والصداقة مع أهل سنجة.
* بداياتك في كتابة الشعر والأغاني؟
- لم أكن معروفاً بكتابتي للشعر فهناك نادي بسنجة يسمى  (بنادي الممرضين ) فيه بعض الإخوة يمارسون الغناء فأنسجمت معهم وحاولت أقدم أول أغنية وتم تلحينها بسرعة مذهلة وكانت كلماتها تقول :
كالزهور زاهي
كالطيور لاهي
لقيتو مرة في ملاهي
الخ. . .
وكانت تلك الكلمات من ضمن بداياتي في عالم كتابة الأغنية، وكانت هذه المحاولات بمثابة الطاقة التي فتحت لي وقررت أن أواصل مشواري الشعري بعد العودة لأمدرمان بالإستعانة بالقائمين على أمر الغناء والثقافة.
* موقف طريف؟
- بعد عام ونصف من نقلي لسنجة تمت إعادتي لأمدرمان وقد وضعني وكيل بريد أمدرمان في مكتب الخطابات المسلمة بالشباك الواردة والصادرة، والمفاجاة أن عمنا عوض ابراهيم عوض كان يعمل بمصر وكل شهر كان يأتيه خطاب به معاشه، وكان يقدمه بعد تقديم أوراقه الثبوتية، وقد حضر إلى شباكي الأخ الفنان المبتدئ ابراهيم عوض وكان بيده ايصال باسم العم عوض عبد المجيد فاستلمت الايصال فسألت ابراهيم. ... (عوض عبد المجيد دا يبقى ليك شنو؟ فقال لي :   دا أبوي )فقلت ليهو (عندك إثبات انو أبوك. . فقال لا.. فقلت له آسف لا تشبههم استطيع أن أعطيك هذا الخطاب لأن فيهو أشياء مهمة، فقال لي  (أبوي عيان مابقدر يجي )فقلت ليهو القانون فوقنا كلنا، ضروري تجيب زول ضامن وأوراق ثبوتية، فزعل جداً جداً وجذب الإعلان من يدي وقال لي  (يا أخي أنت جابوك من وين! ؟ فقلت له  (من الواق واق )فأنتهرني بلاش فلسفة، وجاءني بعد ساعة ومعه أحد أبناء أم درمان الأصليين واسمه أحمد ابراهيم أبو العلا وأذكر مداعبته لي  (انت أصلك جاي من الأقاليم والزول دا مابتعرفو منو لأنك ما مواكب معانا وعلى كل دي أوراقي الثبوتية أضمن بها هذا الشخص وبعزمك اليوم عشان أعرفك الزول دا منو )
* موقف لا تحسد عليه؟
- فعلا الساعة السابعة جاني في المكتب بعد نهاية الدوام وذهبنا إلى منزل الفنانين أحمد المصطفى ، وسيد خليفة وكان بينهما نفاج، فأكرموني وحمدو السلامة لأني جيت من سنجة وقالو لي موقفك إقليمي.. وبعد الكرم والجود أتى الموعد المحدد فأحمد ابراهيم قال لي  (يا متخلف خليك معاي هذا الإنسان الذي كسرت خاطرو وبخلت عليهو بخطاب أبوهو الفنان الموعود ويدعي ابراهيم عوض عبد المجيد يسكن بحي العرب، وأسمعك صوتو تحكم عليهو)
* وماذا وجدت!
- ذهلت وكانت مفاجأة كبيرة لي أن أسمع ذلك الصوت الرخيم يردد أغنية الوافر ضراعو وهي من أغاني الشكر لغرب السودان.. وفي ذلك الوقت كنت في بداياتي ولم يكن لإبراهيم عوض شئ يتغنى به، فكانت تلك بدايتي مع ابراهيم عوض ومع كتابتي للأغاني.