الثلاثاء، 12 فبراير 2019

مقالات:الأستاذ الطيب عمر مفجر ثورة التعليم بشرق النيل



يبدو أنه قد عاودني نهمي للتوثيق للقيادات التعليمية والتربوية والنقابية والمهنية الذي كنت عليه في عهود سابقة، وقد انقطعت عن ذلك لأسباب متعددة ومتباينة، ولكن ذلك النهم وتلك الرغبة ظلا يوخزان دواخلي لمواصلة حلقات التوثيق لأنها تحيط بمعلومات شاملة لسيرة القيادات النيرة والحية- من الحيوية- التي أسهمت مساهمة فعالة ومؤثرة بوجود بصمتها حتى الآن.
       فقد قمت بالتوثيق من قبل لبعض القيادات التي تقاعدت للمعاش ولعبت دورا بعد ذلك في مناح شتى، أذكر منهم الأستاذة مريم حسن عمر التي يرجع لها الفضل في وضع اللبنات الأولى للتعليم الأساس بولاية الخرطوم ووضع قواعده التي نشأت عليها أعمدته، وكذلك وضعها وتنظيمها لعمل رياض الأطفال وربطه بالالتحاق بمرحلة الأساس، ومازالت تواصل إبداعها في الهيأة القومية لرعاية الأطفال الموهوبين ، ومنهم الدكتور تاج الدين الزين صغيرون مدير عام التعليم الأسبق بولاية الخرطوم الذي ترك عمله بالسعودية وقد كان يدر عليه دخلا معتبرا وجاء في بواكير عقد التسعينات ليكون أحد الأشخاص القلائل الذين قاموا بتأسيس وتكوين وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم ، ومنهم الأستاذ عطا المنان علي عطا المنان رئيس الاتحاد المهني للمعلمين بولاية الخرطوم السابق بوصفه أحد الذين شاركوا بعلمية ودراية في وضع الأسس والقوانين واللوائح المتعلقة بالعمل المهني وكان له القدح المعلى في تنفيذ مراحله وتطبيق هياكله، ومنهم الأستاذ أحمد محمد الحسن أبوكساوي أمين مال نقابة المعلمين بولاية الخرطوم الاسبق الرجل القوي الذي لا يخشى في الحق لومة لائم وهو سليل الدوحة الكسوابية ، رجل متصوف كان له تاثيره الكبير في العمل النقابي والمهني وتربية الأجيال على هدى الشرع الحنيف، أما المرحوم الدكتور المعتصم عبدالرحيم الحسن الذي لم ينقطع عنه قلمي وكتبته عنه مقالات كثر ، فإنني أتطلع لأجمع كل ما سطرته عنه وما قاله عنه الآخرون وكل تفاصيل سيرته الشخصية ومسيرته العلمية والعملية في كتاب يكون قدوة وهاديا لأجيال المعلمين الحالية واللاحقة.
         ولأنني قد وثقت لبعض جوانب سيرة الأستاذ عباس محمد أحمد حبيب الله رئيس النقابة العامة لعمال التعليم بالسودان في مقالي السابق من خلال معرفتي وعلاقتي به ، فقد انفتح بسبب ذلك الباب واسعا من جديد لكي أواصل في هذا الدرب الذي بدأته من زمن سحيق وسنين طويلة - مرت ليلة ليلة- فكان أن قفزت إلى ذاكرتي السيرة العطرة والجهود النضرة لأستاذي وقدوتي وقرة عيني ومفخرتي وعظتي وعبرتي وباعث فرحنا ومنبع سعادتنا الرجل الخلوق القويم العالم التربوي الفذ والخبير الاستراتيجي المتفرد الطيب عمر علي عبدالخالق مدير الشؤون التعليمية بمحلية شرق النيل الأسبق ومستشار معتمد محلية شرق النيل الحالي، ومفجر ثورة التعليم بالمحلية الذي نجح في ذلك نجاحا منقطع النظير قل وجوده وندر مثيله في كل محليات ولاية الخرطوم.
         فقد لمست جهوده وتابعت خطواته في فترة وجود الدكتور عمار حامد سليمان معتمدا لمحلية شرق النيل ، وكيف أن الأستاذ الطيب عمر قد تفوق بالمساهمات الشعبية والدعم المجتعمي على الجهود الرسمية وتجاوزها بأضعاف مضاعفة، وكنت مستمتعا بجوانب التنافس وروح الإصرار بينه والمعتمد عمار في هذا الصدد بالتناصف في قضايا التنمية وتكاليفها بين الجهدين مما أثمر عن قيام وتشييد العديد من الفصول والمكاتب والأسوار والحمامات، وإدخال المكيفات لأول مرة في مدارس الأساس بمحلية شرق النيل.
         والآن يواصل في درب العمل الوطني المخلص بعد أن تم اختياره مستشارا لمعتمد محلية شرق النيل وقد عهد إليه أمر ملف المياه في المحلية، فصار المخطط البارع لتوصيل مياه الشرب للإنسان وتوفيرها كذلك للحيوان، وهو الوحيد من بين كل القيادات الذي اندلق له حبر كلماتي كثيرا ومتكررا في مواقف عدة عبر الأخبار والمقالات والتقارير والحوارات، فكان عهدنا معه زاهرا في شتى المجالات.
 وقبل أن أشير إلى اللحظات الأولى لمقابلتي للأستاذ الطيب عمر أود أن أنوه للأسباب التي جعلتني أعمل معلما بمدارس شرق النيل ، فترجع بي الأيام وذاكرة أحداثها إلى أنني قد عملت مع الأستاذ محمد الأمين - الذي يعاني ويلات المرض الآن- في شعبة اللغة العربية في مدرسة الخرطوم التجارية - دار اتحاد معلمي ولاية الخرطوم حاليا- في عهد مديرها إبراهيم الحفيان ، وقد تفرقت بنا السبل بعد ذلك ، والتقيه بعد فترة طويلة ، فأخبرني بأنه يقوم بتأسيس مدرسة ثانوية حديثة بمنطقة البنبوناب وهو يتولى إداراتها ، وطلب مني أعينه في هذا الأمر، وفعلا وبناء على رغبته اكتملت إجراءات نقلي من محلية الخرطوم إلى محلية شرق النيل وصرت معلما بمدرسة البنبوناب الثانوية المشتركة في مطلع هذه الألفية ، وقد وجدتهم نعم الرجال وتعاملت مع مجتمع فاضل لأبعد الحدود، هذا بالضبط هو سبب مجيئي لمحلية شرق النيل التي ظللت بها حتى تاريخ يومنا هذا ، ومنذ ذلك الوقت بدأت أتعرف على قياداتها في نقابة واتحاد المعلمين والإدارات التعليمية المختلفة حتى غدت علاقتي بهم مختلفة تماما في مظهرها وجوهرها عن بقية المحليات.
        أما سبب لقائي لأول مرة بالأستاذ الطيب عمر علي فيأخذ عدة جوانب متباينة ومتلاحقة ، إذ كنت أحد أربعة قواد لعدد خمسين معلما ذهبنا لدولة ارتريا للعمل بها أيام تدمير برجي التجارة العالمي بأمريكا بأحداثها المعلومة للجميع ، وكان من بين هؤلاء المعلمين الأستاذ السر إبراهيم حمزة - وهو كاتب صحفي أيضا- الذي تعرفت به في هذه الرحلة أو القافلة وخلقت معه علاقات أخوية قوية امتدت لأسرتينا بعد رجوعنا من دولة ارتريا، وهو الذي طلب مني أن نزور سويا الأستاذ الطيب عمر حينما كان مديرا للشؤون التعليمية بمحلية شرق النيل ، وبالفعل تمت زيارتنا له بمكتبه، وهذه هي أولى الأسباب واللحظات التي جعلتني أتعرف على هذا الرجل الامة القامة ، وهو ما سأظل أثبته واحفظه للأستاذ السر مدى الحياة أن أكرمني بذلك كثيرا.
            وقد حدثنا الأستاذ الطيب عمر خلال زيارتنا الأولى له عن رؤيته وتخطيطه وجهده ومعاناته وصبره حتى يرتقي بالتعليم الاساس بمحلية شرق النيل وأن ينافس به بقية المحليات الأخرى المؤهلة في كل شئ ، فكان أن تواعدنا وتعاهدنا أنا والأستاذ السر على وقوفنا بجانبه ودعم خطواته بأقلامنا وآرائنا بعد أن لمسنا صدق حديثه وتوجهه وحماسه الدفاق وهمته العالية ورغبته القوية في في تحقيق أهدافه وإنزال شعاراته التي اتخذها ووضع خطته على ضوئها.
      وكنت شاهد عيان على جميع مراحل الثورة التي بدأها وفجرها في مجال التعليم مخططا بارعا ومنفذا متقنا وحاذقا ورجلا جلدا وصابرا على كثير من حوانب المعاناة والعنت والعقبات والعراقيل والصعوبات الجمة التي تجاوزها بعزيمته وتوكله، فظل مرابطا في هذا الموقف وثابتا عليه كالطود لا يهزه ريح لمدة سبع سنوات حتى تحققت رغبته وكللت مساعيه الحثيثة والمضنية وتوجت جهوده الثرة بأن أحرزت محلية شرق النيل في عهده لأول مرة في تاريخها الطويل المركز الأول في نتيجة امتحانات شهادة مرحلة الأساس على مستوى محليات ولاية الخرطوم- وأظنها المرة الوحيدة- إن لم تخونني الذاكرة ، فكان هذا الحدث الفريد كافيا لأسباب انهمار شلالات الفرح وسيول السعادة التي اكتنفت كل أركان وأرجاء محلية شرق النيل ودخلت منازل كل الأسر بالمحلية التي استقبلت هذه السيول السعيدة فاتحة لها الأبواب والمجاري بالمعاول الشعورية ونبل العواطف وصدق الأحاسيس، وهي التي ظلت تعاني من سيول الأمطار قافلة لها الدرب بالمعاول الحديدية ، وسيؤمن لها الأستاذ الطيب عمر هذا الجانب أيضا بعد أن استلم ملفه.
          هذه النتيجة المشرفة جعلت الأستاذ الطيب عمر علي بطلا مغوارا يشار له بالبنان ، وظل اسمه مترددا ومحفورا في الوجدان ومذكورا بالخير في كل بيت وشارع بمحلية شرق النيل ، خصوصا وأنه قد اجتهد كثيرا لكي تحافظ المحلية على المراكز المتقدمة ، فاحرزت بعد ذلك المركزين الثاني والثالث ، وظل مواصلا لجهوده التربوية الهادفة والمؤثرة وقد أحاط به المديرون والمعلمون بحب جارف و معزة خاصة وميل نحو غاياته، وظل محل احترامهم وتقديرهم ، وكانوا رهن إشارته وطوع أمره حتى ترجل عن صهوة جواده فارسا مقداما لا يشق له غبار ووطنيا حقا وصادقا وتربويا حاذقا ومفجرا لثورة التعليم بالمحلية التي ما زالت آثارها باقية ومعالمها بارزة توتئ أكلها وتقطف ثمارها حتى يومنا هذا.