الأحد، 10 فبراير 2019

تحقيق: المعاش المبكر.. كارثة قبل الأوان !!

خبير اقتصادي: المعاش الاجباري يحول دون الاستفادة من شخص في قمة العطاء!!
باحث اجتماعي: بعض المتقاعدين يواجهون تغيرات نفسية سالبة بعد المعاش !!
استطلاع: ندى بدر
الوصول لسن المعاش يعتبره البعض كارثة ، ولم نجد يوماً أحد العاملين أو الموظفين مرحباً  بوصوله لسن المعاش الذي يأتي على حين غفلة ، ولكل العاملين ؛ وان لم يجهزوا شعورهم لذلك، ولكنهم يدركون تماماً  إن تلك مرحلة حتمية لابد أن يمروا بها ... . وإن كان سن المعاش كارثة، فهناك كارثة أكبر وهي المعاش المبكر الناتج عن اصابة في العمل أو عجز  مبكر و الاحالة للصالح العام وغيرها من الاشكال التي تقود إلى حرمان الموظف من اكمال مسيرته ، احساس مرير يعيشه هؤلاء عند صدور قرار بنهاية الخدمة ، وهو لا يزال في قمة العطاء وهذا ما نحاول عكسه عبر الأسطر التالية ...

٭فائض عمالة !!
يعتبر العمل وسيلة لكسب الرزق بينما يعتبره البعض وسيلة لسد الفراغ؛ وهؤلاء لا يمكنهم الاستغناء عن الوظيفة بسهولة ، لذا يمكن القول ان المعاش المبكر ، فائض العمالة،  أو الاحالة للصالح العام ؛ كلها مرادفات تعبر عن الحالة النفسية السيئة التي يمكن أن يعيشها الشخص عندما يتفاجأ باصدار المؤسسة لقرار الاستغناء عنه، خاصة في ظل الخصخصة للكثير من المؤسسات التي لا يكون أمامها سوى الاستغناء من فائض العمالة بعد اعتمادها على وسائل التكنولوجيا التي تقوم بمهمة الشخص وبصورة أفضل . وهناك الكثير من الآثار السالبة المترتبة على المعاش المبكر والتي تنعكس على العامل من جهة، وعلى الوظيفة من جهة أخرى. وفي دول العالم الثالث ومن ضمنها السودان ، تعتبر فترة المعاش نقطة النهاية للموظف الذي يتخيل نفسه جالسآ على كرسي أمام منزله حاملآ صحيفة يهرب من سطورها بالنظر إلى الطرقات تحت نظارة سميكة يضعها على عينيه ، وكثير من الموظفين يحاول الهرب من سن المعاش بالتحايل وتزوير الأوراق الرسمية الخاصة بالعمر الحقيقي ، أما في كثير من الدول المتقدمة فإن الموظف يتوق للوصول الى فترة المعاش التي يعتبرها حياة جديدة ومرحلة استرخاء وتأمل خاصة ان المعاشي في تلك الدول محاط بالكثير من الرعاية كما انه يعتبر خبير في مجاله يمكن الاستفادة من خبراته خاصة ان هناك اندية مخصصة لهؤلاء المعاشيين يتم توصيل اجهزة تسجيل في المناضد الموجودة بها للاستماع الى النقاش الذي يدور بين هؤلاء المعاشيين والاستفادة من خبراتهم ، وخير مثال على رغبة الموظفين في بعض الدول للوصول الى سن المعاش ما حدث في رومانيا عندما أعلنت وزيرة العمل إن الأمهات لثلاث اطفال على الأقل يمكنهن التقاعد ست سنوات مبكراً  ، وقد وجد هذا القرار استحساناً من النساء اللاتي فكرن في إنجاب المزيد من الأطفال للاستفادة من هذا التشريع مع العلم إن سن التقاعد للنساء في رومانيا (63) عاماً .
٭ اصابة عمل!!
بعض ممن عاشوا هذه المعاناة التقيناهم أمام أحد منافذ صرف المعاش وتحدثت الينا عائشة النور والتي كانت موظفة بالارشيف في أحد المصالح الحكومية ، وكل عملها كان مرتبطاً  بالملفات ، وكان ذلك قبل الاستخدام الواسع لجهاز الكمبيوتر وطلب منها مدير المصلحة تجهيز نسخة من أحد الملفات وبحثت عنه في الأرفف السفلى ولم تجده ، ولم يكن هناك أحد غيرها بالمكتب فاضطرت للصعود في الكرسي للبحث عن ذاك الملف ، ولكنها سقطت على ظهرها مما تسبب لها في كسر بالعمود الفقري ، وتم اجراء عدد من العمليات ولكنها أصبحت لا تستطيع الحركة إلا بواسطة كرسي متحرك وكان ذلك سبباً  في نزولها للمعاش ولم تتجاوز (47) عاماً وبعد أن كانت موظفة في قمة النشاط أصبحت الآن تحت رعاية ابنائها ، وقالت إنها في الفترة الأولى لم تستطع التعايش مع تلك الصدمة وأحست إنه لا قيمة لها لكنها اعتادت على ذلك مع مرور الوقت وتقوم باستثمار وقتها في أشياء تفيد أسرتها حيث أحضرت ماكينة خياطة تعمل عليها في تطريز الثياب النسائية ، وأضافت إن المعاش المبكر جمرة لا يستطيع أحد تحملها .
أما حسين الطاهر (معاشي من ولاية كسلا) فقال إن الظروف أجبرته على المعاش المبكر ، حيث إنه في إحدى السفريات في مأمورية تابعة للمؤسسة تعرض لحادث سير أدى لاصابته بشلل نصفي ؛ وكان المعاش المبكر قدر لا مفر منه . والمشكلة إن ابنائه كانوا في سن صغيرة فلم يكن امامه سوى ايجار كشك للعمل به ؛ وقد أعانه ذلك  كثيراً في تربية ابنائه إلى جانب المعاش ، كما إنه استطاع الاندماج مع عمله الجديد في تصوير المستندات ، والكثير من الخدمات المكتبية ، و قال : استطعت تجاوز تلك المرحلة المريرة من عمري وعلى الرغم من انه تم تعويضي لأنها كانت اصابة عمل؛  لكن كل ذلك لا يعادل أن يكون الانسان بكامل صحته،  ويستطيع أداء عمله ، والموظف اذا كان يخشى سن المعاش فعليه أن يعمل ألف حساب للمعاش المبكر الاجباري .
٭معاش اختياري !!
في نفس هذا الموضوع تحدثت إلينا ام كلثوم عبدالقادر والتي كانت تعمل بوزارة الصحة وكانت لها وجهة نظر مختلفة ، وتقول إنها سعت للمعاش المبكر بمحض إرادتها وذلك بعد أن رزقها الله بثلاث أطفال وشعرت إنها لا تستطيع التوفيق بين الوظيفة وتربية الأبناء وذلك بعد أن استنفدت كل اجازاتها فلم يكن أمامها سوى المعاش المبكر أو الاختياري بعد خدمة طويلة؛  وذلك حتى تستطيع تربية ابنائها ، وتقول أم كلثوم إنها لم تشعر يوماً  بالندم على هذا القرار . أما خالد السيد والذي كان موظفاً  في احدى الوزارات قال إنه وبعد الزواج وجد إن المرتب لا يكفي احتياجات أسرته فلم يكن أمامه سوى الاستقالة من عمله دون أن يستحق المعاش لقصر فترة خدمته ؛ واضطر للولوج إلى عالم التجارة وهو الآن يكسب أضعاف ما كان يتم إعطائه له في تلك الوظيفة .
٭ تغيرات سالبة!!
الكثير من الضغوط النفسية والاجتماعية قد يتعرض لها الشخص عند الاستغناء عنه أو احالته للصالح العام ، لذا تحدثنا إلى الأستاذة فاطمة وقيع الله (خبير اجتماعي) وأفادت إن البعص يعتقد إن سن التقاعد   بمثابة السن الذي يرتاح فيه من متاعب العمل لسنوات طويلة, إلا إن بعضهم تنقلب حياته رأساً  على عقب بسبب المشاكل التي يواجهها سواء من طرف المحيطين به أو لعدم تقبله فكرة بقائه دون عمل بقية حياته؛  لذا يواجه بعضهم تغيرات نفسية سالبة خاصة عند التقاعد المبكر ، وذلك بسبب إنه لم يتوقع ذلك ولم يعمل على تهيئة نفسه لهذه المرحلة،  إلى أن يتفاجأ أنه يعيش مرحلة من الفراغ ، بعد أن كان لا يجد نفسه بسبب انشغاله بعمله؛  مما يقود لمعاناة جديدة نتاج الضغوط النفسية والاجتماعية التي يعيشها خاصة اذا لم تتقبل الأسرة ذاك الواقع وتكون المشكلة أكبر في حال التقاعد المبكر ، والذي لن يتقبله العامل ولا أسرته مما يجعله يعيش في عزلة من أصدقائه وأسرته لإحساسه بعدم القيمة في المجتمع، وهناك من يحاول الهرب إلى مكان هادئ لقضاء بقية حياته ، لكن وفي جانب آخر نجد إن هناك من يستطيع تجاوز هذه الصدمة بإيجاد أي عمل يشغل به نفسه يعينه على متطلبات الحياة إلى جانب المعاش . وبلوغ سن التقاعد له تأثيرات سلبية على حياة الفرد النفسية والجسدية والاجتماعية وذلك بارتباط هذه المرحلة كذلك بوصول الشخص إلى سن الشيخوخة   فيصاب بحالة من الاكتئاب كانخفاض المزاج والشعور بالدونية والقلق الشديد ويصاب بعزلة اجتماعية ووحدة قاتلة وفقدان للأمل وإحساس باليأس وتصبح لديه حساسية زائدة ، لذلك يجب على المحيطين بأي متقاعد خاصة أفراد أسرته أن يرفعوا من معنوياته وأن لا يكلفوه ما هو فوق طاقته, لأنه قام بواجباته تجاههم بعمله لسنوات ويعتبر سن التقاعد بمثابة راحة من ضغط العمل وأن يقفوا إلى جانبه ، وفي حال المعاش المبكر يجب أن تحاول الاسرة اعادة الثقة للمعاشي في نفسه وأن يتم حثه على البحث عن أي عمل أو مشروع استثماري يشغل به نفسه .
٭ ضحايا الخصخصة!!
تختلف المسميات للمعاش المبكر من دولة لأخرى فهناك من يسميه استقالة ويشترط لصرف المعاش ألا يقل عمره عند الاستقالة عن أربعين سنة وألا تقل مدة الخدمة عن (15) سنة ، وفي دول أخرى يسمى استقالة إرادية وهنا لا يستحق الموظف معاشاً  إلا اذا بلغت مدة خدمته (25) سنة ؛ ولابد إن المعاش المبكر له الكثير من الآثار الاقتصادية والتي حاولنا عكسها من خلال الحديث إلى الخبير الاقتصادي محمد ابراهيم والذي أوضح أن كثير من الذين تقاعدوا مبكراً  هم ضحايا الخصخصة والتي يكون فيها التقاعد المبكر اجبارياً  نتيجة لقرار تتخذه المؤسسة المحددة بتخفيض عدد العاملين لمعالجة بعض المشاكل الاقتصادية وهذا النوع من التقاعد يتم التشجيع عليه بالعلاوة ولكنه يحول دون الاستفادة من الموظف وهو في أوج عطائه ، كما قد يضطر الموظف للتقاعد نتيجة اصابة تحول دون مباشرة العمل بالصورة المطلوبة ، أما بالنسبة للتقاعد المبكر الاختياري فهذا يحدث نتيجة للظروف الاقتصادية التي تجعل الموظف يبحث عن عمل آخر لزيادة الدخل وهنا يزداد احتمال اختيار الموظف للتقاعد المبكر إذا وجد فرصة عمل أفضل في القطاع الخاص، أو اذا كانت لديه أعمال خاصة يمكن أن تتعطل بسبب الالتزام بالحضور والانصراف في تلك الوظيفة والتي يكون فيها الدخل أقل مما يحصل عليه من تلك الأعمال الخاصة ، وفي احيان أخرى يفكر الموظف في عمل مشروع والاستغناء عن الوظيفة .