الاثنين، 21 يناير 2019

أوراق من ذاكرة أمدرمان: "الوطن" في حلقتها الأخيرة مع العميد الركن (م) يوسف علي إدريس بابكر

القوات المسلحة هيئة تنتج الأمن وتقدمه بالمجان

الكنداكة السودانية قصة شجاعة وكرم... قدر الجندية  لايعرفه ولا يقدره إلا من عمل بها

لم تقع عيني على سعادة العقيد الركن علي حسن نجيلة  إلا  وهو ممسك بكتاب يقرأ أو بقلم يكتب

يوسف علي إدريس بابكر ولد بقرية المغاربة  (ريفي أبو حراز ) شرق مدني، درس بمدرسة المغاربة الابتدائية وشهرين من العام بمدرسة ود الكاشف الثانوية.. العامة ثم انتقلت أسرته إلى ود مدني حي  (ود الكنان ) حيث التحق بمدرسة زروق المتوسطة. والثانوي بمدرسة ود مدني الثانوية.

 *وفي  ختام حلقاتنا التوثيقة نفتتح حلقتنا اليوم بالغوص عميقاً في بداياتك كشاعر وأديب وعلاقتك بحي ود كنان بمدني.؟
-كنت عضواً في الجمعية الثقافية بنادي حي ود  كنان بمدني وذلك على الرغم من أني كنت وما زلت طالباً بمدرسة زروق المتوسطة، من هنا كانت
بداياتي وأنا مريخابي .وظهر أحدهم لا أذكر اسمه و تلفظ  بكلام عن المريخ لم أقبله بل وأغضبني بشدة ولم يكن في إمكاني الرد عليه أو ضربه وذلك بحكم عامل السن ومكانة الوالد في الحي وخفت يقولوا ليهو ولدك شاكل زول أكبر  منو فكتبت:
أنا بحب النجمة
والما بحب  النجمة
روحو  ما منسجمة
واريتو    بالهجمة
الهجمة    التكتلو
ولو  ما  عاجبو
يجي    الميدان
وحيرجع  ندمان
...وكانت تلك محاولات  طفولة  ضاع أكثرها المكتوب منها وما علق في الذاكرة وكان ذلك في زمن  سامي عز الدين  ومرتضى عوض قلة وهذا القامة كان يسكن في  حي ود كنان وزاملته في فريق حي  ود كنان في دوري أبو
ليلى حين كان يقام  في ميدان المولد ومن اللاعبين الكبار الذين كانوا يأتوا من فرق إحيائهم  عن قصد لمشاركة حمد والديب وعمر ملكية وقلة وبعدما دخلت الجيش انقطعت  أخبار دوري أبو ليلى.
 *مواقف وقفشات دفعتك للكتابة؟
-كنت في  يوم ما أؤدي صلاة الجمعة بمسجد بانت وكنت قريباً من الشباك وبمجرد أن جلس الإمام للتشهد وقبل أن  يكمل الإمام التشهد ( جاء منقولي )
وقال السلام عليكم بصوت عالٍ  وكل المصلين سلموا ولم يكمل الإمام التشهد بعد.
ومن ذلك أيضاً وبعد ترجلي من القوات المسلحة التي  لا أستطيع أن أوفيها حقها.. وفي أحد المواقف في  زحمة الحياة جاءت:
ماني الهوين      الغشيم    البنقش
حرارة  قلبي تبق    تحرق      تش
ابوك يالسمحة وقت الموت  قش
ما  اتوارى  خلف  الصفوف
واقف   في   الوش
نحن  مابنقبل نبدل  ونرش  رش
وقت  القتال يقع
بنحش الرؤوس حش
نكرم الكريم  ونقابلو
بالورد  والرش
واللئيم  إن جانا
غيظنا   ضحى  يتفش
مابعرف  الكضب  والخداع  والغش
ومن أطرف المواقف وكنت نائماً ورأيت في الحلم مارأيت استيقظت ابحث عن الورقة والقلم وكانت في متناول اليد وكتبت. . . .
تتهادى متل فريع
الجمالا باين لخلق الله جميع
خلتني حاير مابين نحيب وترجيع
سبحان التصويرو للجمال بديع
رفعت يدي طالب النجدة من قدام
سألتا ربي وسيدي صاحب المقام
جاتني مدت أيدا قمتا للسلام
نهضتا واقف والجميع نيام
ظلام دامس متل ليل العميان
استغفرت ورجعتا مكسوف وحيران
حاولتا النوم لكنو كان حرمان
لا صيدا لا فريع تاري كت حلمان
*مازلت اتساءل عن الرابط بين الجيش والألمونيوم؟
-سبق وأن اتفقتي معي  على أن  صناعة الألمونيوم فن  بدليل مطبخك في بيتك والآن أضيف  بأن الجيش فن ولايستمر في الجيش إلا رجل فنان برسمه
للخطط  الحربية وتوقيعه على الرسمة أو اللوحة بالتنفيذ الجيد للخطة والوصول للهدف، فالضابط في القوات المسلحة يجب أن يكون حصيفا، لبقاً، أنيقاً وكل ذلك يحتاج لفن وكلمة أنيق تشمل كل النواحي  لبسه، تصرفاته في كل المواقف القتالية  سهلة كانت أو صعبة . ويعد  فن الطبوغرافيا  وعلم التكتيك والاستراتيجية  فن  وكم اتمنى  وأرجو منك سيدي رئيس الأركان أن تتيح فرصة واحدة للصحفيين لنيل زمالة كلية الدفاع الوطني.
*يوسف البار بوالديه هل صادفتك دعوة رضا؟
-اذكر في مرة  وأنا جاي من الجنينة وكل ما أملكه  من مال  أربعة عشر ألف جنيه وكنت أفكر في شراء أمجاد أو رقشة وكنت أضع المبلغ  تحت المرتبة  عند النوم وفي  اليوم  الثالث سمعت صوتاً  وأنا نائماً يقول (يوسف  ..أمك  دي  مادايرة الحج  وإنت عارف ) فقلت في  نفسي دا المنادي وانشرح قلبي  فأيقظت المدام وقلت ليها  بكرة الفجر ماشين مدني لاني مشتاق لأمي، وقد كان  ،وبعد التحي  والسلام أمسكت أمي من يدها ودخلنا (التكل ) محل العواسة ودا للزول الما بيعرف التكل واديتا  تمانية ألف وقلتا ليها  دي  قروش الحج إنتِ وأبوي  وكان وقتها الحج للفرد أربعة آلاف فدعت لي أمي  (يااارب  يديك  تمنين ألف ) ويشهد الله  قبل أن
تعود أمي من الحج رزقني الله  ثمانين ألفاً عداً ونقداً. ..فقلت  في  نفسي  هسي أمي  دي أكان قالت  تمنمية ربنا كان حاسبا. وأمي  شاعرة  وعندها العديد من الكتابات  وكثيراً ما تعدل لي  في  كتاباتي وأعدل لها أسأل الله أن  يعطيها ووالدي  الصحة والعافيةويطول في عمرهم ويرزقني برهم.
*وماذا عن وقائع أسرك وتفاصيل الأحداث بمريدي في  غرب الاستوائية؟
-كنت  في  ذلك الوقت ملازماً وعريساً راجع من أجازة الزواج (وبحنتي )وتدور الأحداث  حول وصول عدد من  المتمردين للموقع ويبلغ  حوالي الستة عشر  فرداً من  بينهم  امرأة  وبصحبتهم  تور، وقبل وصولهم ارسلوا مناديب موضحين رغبتهم في الاستسلام ولاحظنا هدوء تام في الموقع، وخرج منا حوالي ست وعشرين فرداً بعد أن أخبرهم  المتمردون بأن هناك عدد اثنين عربةzy   كبيرة محملة  بالسجائر ( والكت  كات ) وهي  عبارة عن نبتة تتم زراعتها بالجنوب وتجفف وتستخدم مثل السجائر، ولكن  لم  يرجع الأفراد للموقع  حتى  صباح اليوم الثاني وبعد الفطور خرجت ومعي دفعتي الأخ الكريم العميد الركن خالد أحمد حسين الشهير  بخالد دنب، خرجنا نحمل عصينا وبصحبتنا عسكري من أبناء الدينكا وكان القش كثيف يغطي الشخص وقابلنا الجماعة وفي طريقنا إليهم ويبدو أن العسكري  لاحظ أن أشكالهم غير
آمنة فاختفى داخل القش ورطن الجماعة تحلقوا حولنا  وأيقنا أننا تحت الأسر ولم نجزع  وبعد قليل رفع  العسكري  تابعنا داخل القش رأسه وعندما
وجدنا داخل الحلقة  أسرع بالرجوع، وإذا بالجماعة  يرطنوا  للمرة الثانية وفكوا  الحصار من حولنا  وتركونا  لحالنا ورجعنا المعسكر بصحبة العسكري.
واتفقنا على أن نحتفظ بأفرادهم لحين رجوع أفرادنا وكان التور طيلة هذه الفترة لم يأكل أو يشرب ولم يرقد ولم تطلق طلقة والكل في حالة سكون ولا أحد يدري  شيئاً عن الأمر وحضر رقيب أول كان في إجازة  بإذن وأشار بحرق
التور( لأنو عاملين فيهو سحر ) وبعد تنفيذ الأمر تنفس  الموقع الصعداء وامتلأ بالضجيج كالعادة ولم يحضر أفرادنا وكان ذلك  في  عام ألف وتسعمائة خمس وتسعين.
 * الكنداكةالسودانية وقصة شجاعة وكرم موروث حدثنا عن  رحلتك وأسرتك بالهيلوكوبتر من بابنوسة للأبيض؟
-كنت  وزوجتي وابنتي الكبرى في  طريقنا من بابنوسة  للأبيض وكنا في الهواء واضطر الطيار للهبوط لنظافة  الفلتر وحطت الطائرة في الخلاء وبعد مدة  قصيرة أقبلت علينا امرأة تجري بشدة وثوبها على رأسها وعندما وصلتنا  قالت  (الحمد لله قايلاها حرقت) ولبست توبا
وذهبت عائدة وفي أقل من  عشر  دقائق رجعت لموقعنا   ومعها اتنين من الشباب كل منهم يحمل  جردلين من اللبن  وسبحان الله  كرم  لا يقاس  ولا يقدر وأصرت المرأة علينا  للغداء فاعتذر الطيار وبعد  قليل اقبل نفس
الشابان  يحملان  خروفاً  في جوال من الخيش. ..تخيلي مثل هذه المرأة القوية ولا عجب فهي سودانية ...ولكن للأسف  نام الطيار بالخروف ولم ينوبنا منه شيء.
وسبحان الله وبعد سبع سنوات اكتملت القصة وكنت  وقتها رائداً في أبيي قائداً للمعسكر الشمالي ورئاسته جنوب المدينة وكان قائد اللواء سيادة العميد الركن معاش  أبو إدريس الشيخ الريح ربنا يطراهو بالخير، وفي تمام الساعة الحادية عشر ليلا ً حضر إلي الرقيب النوبتجي وقال لي هناك اتنين من المتمردين الخوارج يريدون التسليم فسألته إن كانوا مسلحين وأجابني بالإيجاب فطلبت منه أن يستلم منهم السلاح  ويضعه في المخزن ويسلمهم  للضابط النوبتجي في رئاسة  اللواء على أن يحتفظ بهم للصباح.
وكان ذلك ليلاً ولم أقابلهم، وفي الصباح ذهبت للرئاسة حيث اعتدت على شرب القهوة مع سيادة أبو  إدريس الشيخ الريح  كاجتماع صغير ومعنا نائب القائد وكان وقتها سيادة العميد الركن معاش عمر محمد موسى وكان في  ذلك الوقت مقدماً، وعند دخولي وجدت الضابطين  اللذان سلموا أنفسهم  ليلة الأمس جالسين في الاجتماع الصغير  وكانت أشكالهم مألوفة وأطرقت أفكر في أين قابلتهم بينما حدق بي أحدهم برهة من الزمن وبعد السلام قال لي (أنا بعرفك )  فسرحت في تفكيري وقلت بيني وبين نفسي  (ياربي أنا حصل اتمردتا  ولا كيف، زول متمرد ولأول مرة اشوفو يقول لي  بعرفك ) و اتسعت دائرة الاندهاش وشملت القائد  وآخر  في نفس رتبته وكنت أنا كبير المندهشين، وانبريت له بالسؤال  (بتعرفني  من  وين! !!؟؟)
فأجابني :تذكر  في مريدي  نحن أسرناكم ومعاك واحد تاني سمييين كد !،!
فعاد المشهد والذي مرت عليه سبع سنوات وكنت عريساً وملازماً وقلت له نعم تذكرت وكان معي العميد الركن  خالد  أحمد حسين والشهير بخالد دنب وبادرته بالسؤال: وطيب إنتو فكيتونا ليه؟ ذلك السؤال الذي  ظل  عالقاً بذهني وزميلي خالد طيلة السبع سنوات الماضية فأجابني: واحد من عساكركم الجوا القش رفع راسو  وشفناهو عشان كدا خليناكم وزيادة على كدا ماف واحد فيكم  اتجرس ولاحتى عاينتو لبعض فعرفنا أنكم محروسين بعساكر داخل القش ).،..فقلت له نحن محروسين (بيس )  (والحمد لله رب العالمين. )
*كثيرة هي اللحظات التي يمر بها الإنسان وتتفاوت  مابين الحزن والفرح ولكن الأسى غالباً ما يظل راسخاً  وعالقاً بذاكرة الإنسان... لحظة  لا تنسى؟
-لحظة  سماعي نبأ وفاة طفلتي الغالية رحمها الله   ذات  الثماني سنوات وكنت في ذلك الوقت رائداً  حين جاءني  سعادة اللواء الركن بركات فور سماعه  الخبر  وكنت وقتها أعمل بالسلاح الطبي مساعد رئيس العمليات
الحربية  وقال لي  (قول اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي  خيرا منها )
فرددت ماقال  والحمد لله رزقني المولى الكريم  بأربعة من البنين الذكور حفظهم الله وكنت اتقبل التعازي وكان أخي  وصديقي أبو بكر البلال وهو من  اسميت عليه ابني  ورغم تقصيري معه، كان متابع إجراءات الوفاة
والإسعاف ووصل معي إلى مدني والحمد لله ألهمني الله  الثبات على  فقد ابنتي وقرة عيني ولكني وبدون وعي  غبت عن الوعي لساعتين وعندما أفقت وجدت الكل ملتفاً حولي وابنتي ما زالت في لفتها رحمها  الله وجعلها
غرة عين لي ووالدتها يوم الوقف العظيم
 *كلمة أخيرة ووصية للواعدين من أبناء القوات المسلحة؟
-قوات  الشعب المسلحة السودانية حامية الحمى وحاملة لواء العزة والكرامة، إنها هيئة من ضمن الهيئات التي تعمل على راحة المواطن ولكن هذه الهيئة تعمل على حماية  أمن وسلامة المواطن السوداني أينما كان ومتى ما طلب ذلك فنجد ها أول من  يلبي النداء حتى ولو  كان زحفاً .
إنها هيئة تنتج الأمن وتقدمه بالمجان.
الحمد لله على نيلي شرف العمل قرابة الثلاثين عاماً، خدمة  طويلة ممتازة متواصلة  ليل نهار أرضاً، جواً  وبحراً ويا له من شرف عظيم  لا يناله إلا من كان أهلا به.
وكل من وصل لرتبة ضابط عظيم ماكان ذلك إلا  شرفاً ناله بجده ومثابرته وحرصه التام على تنفيذ الأمر الذي كلف  به على الوجه الأكمل والأمثل، وأقول في ختام حديثي أن قدر الجندية لا يعرفه ولا يقدره إلا من عمل بها  وأن لها  وجه آخر  غير وجه الضابط الأنيق الهندام حليق اللحية لامع الحذاء مكروب القاش،إنه وجه الضابط الشرس الذي حين تضرب الذخيرة بجميع معاييرها  ومن كل الاتجاهات نراه يزداد حماسة وشجاعة ويطلق الروراي لحماسة جنوده، ولن يجد بدٍ من مبادلتهم بما قاموا به ، ذلك الحماس إن صح  تعبيري في وصفه إلا ذلك  الشئ الذي نحسه عند ضرب الدفوف وقرع  الطبول وعزف  المزامي  وصوت الحسان الذي  ينطلق كالموس في حدته  في كل الاحتفالات عند رقصة النقارة والمناسبات العظيمة، عندها نجد الكل  يرغب الرقص  أو العرضة  بطريقته الخاصة والحمد لله الذي وفقني لأداء العرضة التي  تليق  بشخصي.