لو عدنا إلى ذروة أحداث الثورة لوجدنا أن نجاحها المبدئي تم على مرحلتين أوليتين: سقوط الطاغية والمجرم واللص عمر حسن أحمد البشير، ثم سقوط عوض ابن عوف خلال يومٍ واحد، لكن هاتين المرحلتين أفضتا إلى سقوط السلطة وليس النظام الذي يتمثل بتشعبات أخطبوطيه متجذرة منذ عقود، وعلى ذلك يحتاج اجتثاثها إلى عملية مستمرة صعبة تواجهها تحديات وإعاقات تصل في بعض تجلياتها إلى حد الثورة المضادة على جبهتي الداخل والخارج.
في رؤية المشهد العام، لا مبرر لقلق سلبي، إذ ليس هناك ما يشذ عن قانون الثورات، إنما حراك في إطار عرفه التاريخ مراراً، فحواه أن البناء أصعب من الهدم، وأن بناء الواقع الجديد يحتاج إلى تنظيف الركام والتأسيس على أرض صلبة ونظيفة، وهذا لا يتم بكبسة زر أو بعصا سحرية.
وما يزيد الأمر صعوبة أن الواقع الجديد لا يولد من رحم آخر بل من الرحم نفسه، وهناك كثير من التداخلات والتشابكات التي تفرض التقاطع مع بعض ما يصلح من أدوات النظام القديم، ذلك أن استبعاد كل شيء يزيد الوضع تعقيداً، إذ لا يمكن شطب كل شخص عمل في دائرة أو مؤسسة أو حتى وزارة في العهد البائد، وليست كل الآليات التي كانت متبعة خاطئة، هنا تأتي الحاجة لاجتراح طريقة التعاطي العلمية والدقيقة والحلول الإبداعية التي تبقي على القديم الصالح وتستفيد منه في صنع الواقع الجديد، وفي الوقت ذاته تصر على شطب الفاسد من دون تردد أو مساومة .
من هذا المنطلق يأتي إصرار شباب الثورة على محاكمة رموز النظام السابق بلا مواربة أو التفاف أو مماطلة أو لين، ومن نافل القول إن المحاكمة المطلوبة لا تنطوي على الانتقام والكيدية والتشفي والإهانة، إنما الهدف منها التأسيس لنظام يدرك فيه كل إنسان، مهما علا، أنه تحت القانون، وأنه ليس خارج منطق العقاب.
وأخيراً، أريد أن ألقي برسالة في بريد المتطرف عبد الحي يوسف مضمونها في الآتي: « السودان ليس بحاجة إلى حكومة تقود شعبه إلى الجنة، بل إلى سياسة تؤمن لمواطنيه العيش الكريم».