الاثنين، 22 أبريل 2019

مقالات:انتصار الثورة والمطلوبات


عدت أمس للبلاد بعد رحلة استشفاء قصيرة ، كنت أتابع في الفترة الأخيرة شباب السودان من فتيان وفتيات وهو يسطر فصولا ساطعة من ملحمة الثورة الشعبية التي تواجه بإجماع الإرادة وقوة التصميم نظاماً قمعياً قام بتمكين قياداته وعضويته في مفاصل السلطة ومواقع المجتمع لثلاثة عقود.
هذه الثورة المجيدة انتقلت من مكافحة القمع الأمني إلى المواجهة المباشرة للنظام في الاعتصام بالقيادة العامة، وهي تحتفظ بسلمية التحرك وحنكة المطالب حتى أسقطت واجهة النظام وظلت معتصمة في موقعها لتصفية خلفيات النظام حتى اقتلاعه من أرض السودان اقتلاعاً.  
هذا الاعتصام المبارك الذي التحقت به اليوم له دلالات عميقة في أدب الثورات نال به الشعب السوداني موقع الأستاذية بين الشعوب يكفي انه أسقط رئيسين في ظرف 84 ساعة، وهو الذي يملي إرادته على المجلس العسكري الانتقالي وهو يطالب بتسليم السلطة للمدنيين ويكفي القوات المسلحة أنها إنحازت للشعب وحمت ثواره أمام دارها.
لقد ضرب الشباب الثائر في الاعتصام مثلا أعلى من منظومة القيم السودانية لا يعرفه أدعياء الدين فلم تسجل حادثة واحدة بين المعتصمين كجريمة سرقة أو تحرش غير لائق، وذلك في تجمع شبابي هائل كهذا بلغ في ذروته الخمسة ملايين واحتفظ كحد أدنى بمليون.
وقد حافظ هذا التجمع بإدارة ذاتية ماهرة لتحركات الثوار واحتياجاتهم الأساسية في ذروة من التكافل الاجتماعي غير مسبوقة، وذلك مع ضمان سمة السلمية الملازمة حتى قاموا بالتفتيش الذاتي للمعتصمين تخوفاً من المندسين بسلاح أو آلة حادة ، وقد تلاحموا مع ضباط القوات المسلحة وجنودها في ترديد الأهازيج الوطنية وهم يرفعون رمز هويتهم السودانية علم السودان، وقد انمحت بين صفوفهم الفوارق العنصرية والنوعية والطبقية والحزبية.  
هذا نموذج مصغر لسودان الغد الذي يتمثل شبابه الأخلاق السودانية والقيم العليا للهوية السودانية ، لقد تابعت الاعتصام ساعة بساعة فأذهلني هذا الشباب المعتصم بتحمله المسئولية عن حنكة وكفاءة وإدارته عملية التغيير بأقل الخسائر.
وللتذكير بمعالم برنامجي السياسي الذي أعلنته من أجهزة الإعلام المتاحة وموقعي في التواصل الاجتماعي في عز سطوة النظام الأمنية، فقد ناديت بسلطة مدنية ، فلا هي عسكرية تفرض إرادتها بقوة السلاح ولا هي دينية تستغل الدين في سبيل السلطة، وناديت باستقلال المؤسسات القومية عن السلطة وهي القوات المسلحة وقوات الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات والهيئة القضائية والنيابة العامة وأجهزة الإعلام والخدمة المدنية علاوة على استقلال منظمات المجتمع المدني النقابية والطوعية وإدارات الجامعات ومراكز البحث والدراسات،
وقد ناديت بدولة حكم القانون ودولة المواطنة التي تكفل المساواة وتمنع التمييز بين المواطنين بسبب العرق أو الدين أو النوع ، وقدمت الحل المفتاحي لأزمات الاقتصاد المتراكمة والتي بلغت مرحلة الإنهيار مع انهيار النظام هذا الحل المفتاحي يمكن استخلاصه في كلمتين (التصنيع الزراعي) الذي يمثل رافعة لانتاجنا الزراعي النباتي والحيواني وزيادة نوعية في القيمة المضافة لصادراتنا بدلا عن تصدير المواد الخام والمواشي الحية، وقد فصلت هذا الخيار بما يغير الخارطة الاقتصادية للبلاد والموروثة من العهد الاستعماري ويعيد توزيع الكتلة السكانية المكتظة في العواصم على مساحة القطر الشاسعة ، كما سيقضي على البطالة وعلى ظاهرة المجتمع الطبقي التي أوجدتها سياسات النظام الاقتصادية المدمرة.
وأنا أضم رأيي إلى رأي المعتصمين في تصفية جميع معالم الدولة الإسلامية العميقة أو دولة الهوس الديني المتغلغلة في مفاصل السلطة ومواقع المجتمع ، كما أنادي معهم بمحاسبة من أسسوا للفساد اخطبوط له رأس وأطراف ممتدة في كيان الدولة والمجتمع، فلا تكفي إزالة الرأس دون اجتثاث أطرافه أكثر من ذلك أنادي مع الثوار بمحاكمة رموز النظام على ما ارتكبوه من جرائم كبرى في حق الوطن والدين.
وتبدأ هذه المحاسبات بحظر نشاط الحركة الإسلامية حظراً مؤبداً بجميع واجهاتها السياسية كالمؤتمر الوطني أو أي قناع سياسي آخر ترتديه، وقد عرفت تاريخياً بتبديل الأقنعة وذلك على أساس تصنيفها كحركة إرهابية اختطفت الوطن وحريته وأرهبته على مدى ثلاثة عقود طوال، وكذلك حظر جميع أذرعها الاقتصادية وأطرافها الاجتماعية والثقافية.
والأهم من ذلك محاصرة فكرها الديني المتخلف الذي شوهت به الدين ونفرت منه واكسبتنا العداوات الإقليمية والعالمية بسببه.
هذه الجرائم الكبرى ترقي إلى مستوى الجرائم الدولية كالارهاب والإبادة الجماعية والفساد الذي حل محل الشفافية والنزاهة والقتل خارج القانون والقضاء والخرق الفاضح لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة هذه الجرائم على وجه الحصر هي :
أولا  : فصل الجنوب الذي تسببت فيه القوانين الإسلاموية المخالفة للشريعة وللدين كتزييف الجهاد وثنائية التشريع: للشمال الشريعة المزيفة وللجنوب القوانين العلمانية وذلك مما شكل دافعاً للجنوبيين لتغليب خيار الانفصال على خيار الوحدة، وقد أسعد هذا الخيار سدنة الحركة الإسلاموية حتى يخلو لهم الجو في الشمال للانفراد بحكمه إسلامويا.  
ثانياً : الإبادة الجماعية في دارفور كجريمة دولية حسب المحكمة الجنائية الدولية وصارت عاراً في جبين السودان يتحمله رئيسه المخلوع وقادة نظامه ولا يمكن إزالة هذا العار إلا بمحاكمتهم داخلياً.
ثالثاً: الفساد المالي والإداري واستغلال النفوذ وتهريب الأموال للخارج مما أدى إلى تخريب الاقتصاد وضياع الثروات والعجز التام عن توفير الحاجات الأساسية للمواطنين وغلاء السلع والخدمات وجفاف السيولة في البنوك وارتفاع سعر الدولار وهي جريمة كبرى من جرائم تخريب الاقتصاد والأضرار بالمصالح العليا للبلاد.
رابعاً:  تمكين قيادات الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم وعضويته اتحادياً و ولائياً ومحلياً من الإستحواذ على المناصب والمكاسب والوظائف في مؤسسات السلطة ومنظمات المجتمع، وذلك مما أفرز اتساعاً نوعياً في نسبة البطالة خصوصاً بين الخريجين من عامة المواطنين هذا مع أن التنظيم الحاكم لا يمثل إلا قلة قليلة من الغالبية العظمى للمواطنين حسب نسبة التصويت في الانتخابات العامة الأخيرة مع التحفظ على مصداقيتها، حيث بلغ المصوتون للحزب الحاكم ثلاثة ملايين فقط في كل أنحاء البلاد. 
خامساً:  قتل المتظاهرين السلميين الذين يبلغون العشرات في جميع أنحاء البلاد وإصابة المئات واعتقال الآلاف وهذا القتل خارج القانون والقضاء جريمة دولية بشعة.
سادساً: التهديد الإرهابي بقتل المتظاهرين والمحتجين السلميين بكتائب الظل (الأمن الشعبي) ممن كان يوماً نائباً أول لرئيس الجمهورية أو قطع رؤوسهم ممن كان من قبل رئيساً للبرلمان او الاستخفاف بعددهم ( مع انهم بلغوا الملايين في الاعتصام) ممن كان سابقاً مساعداً لرئيس الجمهورية وهذه جميعاً جرائم إرهاب يحاكم فاعلوه بأقسى الأحكام. 
سابعاً:  مصادرة الحريات العامة بالقوانين المقيدة للحريات لسنوات طوال واعتقال المعارضين السياسيين وتقييد حرية الصحافة بالرقابة القبلية واعتقال الصحفيين الأحرار وتحويل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي إلى جوقة من المحللين وحارقي البخور، وقد اعترفت القوات المسلحة بعد الإطاحة برئيس النظام بأن النظام لم يكن يملك غير الحل الأمني وبأنه كان من المزمع فض الاعتصام بالقوة لولا تدخل القوات المسلحة وحمايتها للمعتصمين.
ثامناً: تحويل مؤسسات السلطة ومنظمات المجتمع إلى ملك خاص للتنظيم الاسلاموي الإرهابي لا يقربون منه إلا المنافقين لهم وإبعاد الشرفاء والأحرار. 
تاسعاً: ضحايا الصالح العام والمفصولين تعسفياً من الكفاءات المقتدرة بحجة معارضتها لسياسات النظام الشمولية واستبدالها بأهل الولاء دون كفاءة.
عاشراً: تخريب المؤسسات الادارية والاقتصادية العريقة الموروثة من العهد الاستعماري والوطني كالخدمة المدنية ومشروع الجزيرة والخطوط الجوية والسكك الحديدية.
هذه الجرائم العشر لابد من محاسبة رموز النظام عليها بقوانين العدالة الانتقالية الناجزة كما لابد أن تبدأ في الفترة الانتقالية وتستمر حتى السلطة المنتخبة.
أخاطب شباب الثورة الثائر بأننا نريد سوداناً جديداً يولد من رحم الثورة ولا يستنسخ بإعادة إنتاج النظم القديمة لابد أن يخرج السودان من الدوران في الحلقة المفرغة ، نظام عسكري فثورة فحكم عسكري انتقالي ثم حكم طائفي إلى آخر حلقات الدوران.
نريد تكويناً جديداً لأحزاب متقدمة من الشباب الحر اللا  منتمي بديلا للاحزاب الطائفية والاسلاموية التي فقدت صلاحيتها بمرور الزمن ، نريد ديمقراطية حقيقية من داخل إعادة البناء الحزبي ليست طائفية مرهونة بإرادة الزعيم الطائفي ولا إسلاموية مسلوبة لإرادة مرشد الجماعة، وهذا وذاك على النقيض من الديمقراطية التي تقوم على حرية الإرادة لعضوية الحزب وقياداته.  
سيكون مستقبل السلطة في السودان لأحزاب حرة ديمقراطية ولمؤسسات تنفيذية مهنية عالية الكفاءة.
والله المستعان
المرشح القومي المستقل لرئاسة الجمهورية