*عرف السودان منذ بواكير استقلاله بتعاقب عدد من الحكومات المدنية التي حملت على نظام "الديمقراطية" عبر الانتخاب الحُر .. وكان السبيل الى ذلك سماح المستعمر بانشاء احزاب سياسية تمثل نواة لذلك النظام السياسي في خواتيم بقائه مستعمرا للبلاد .. اذ نصت إتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان في 12 فبراير 1953م على منح السودانيين الحق في تقرير مصيرهم للإستقلال من إستعمار دولتي الحكم الثنائي على أن يسبق تقرير المصير فترة إنتقال لا تتعدى "ثلاثة أعوام" يمارس فيها السودانيون الحكم الذاتي الكامل لتصفية الإدارة الثنائية بعد ان بذل المستعمر وعود قاطعة بمنح الاستقلال مقابل مشاركة جنود قوة دفاع السودان "الأشاوس" مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية اولئك الجنود الذين غنًّى لهم المغني "ديل الفي كرن بينين" على ان تبدأ فترة الانتقال في اليوم المعين وهو اليوم الذي يشهد فيه الحاكم العام كتابةً بأن مؤسسات الحكم الذاتي هي مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس الشيوخ قد تم تكوينها وبموجب الاتفاقية تنتهي فترة الانتقال عندما يتخذ البرلمان قراراً يعرب فيه عن رغبته إتخاذ التدابير لتقرير المصير ويخطر الحاكم العام الحكومتين البريطانية والمصرية بذلك ..
* إبان تلك الفترة سيطر على الساحة السياسية السودانية إتجاهان: استقلالي ويدعو لاستقلال السودان التام .. وإتحادي يدعو إلى الاتحاد مع مصر وإتفق جميع السودانيين على رأسهم الأحزاب السودانية الرئيسية على الاستقلال من المستعمر بشتى السبل ولكن برز بينهم »خلاف« بشأن الوحدة مع مصر أم الاستقلال بالسودان كدولة قائمة بذاتها .. ومثل ذلك الأمر بذرة شقاق واختلاف أدت إلى صراع تلك الأحزاب فيما بينها منذ وقت مبكر من استقلال السودان ويمكن رصد تلك الأحزاب وتباين رؤاها في الآتي:
حزب الأُمة أُسس في فبراير (1945م) وهو أكبر الأحزاب المنادية باستقلال السودان ويتشكل الحزب من طائفة الأنصار (أتباع الإمام المهدي) وزعماء العشائر ونفر من الخريجين الذين توافقت مبادئهم من رؤية الحزب بالاستقلال التام للسودان على أساس مبدأ (السودان للسودانيين) مع الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع دولتي الاستعمار (بريطانيا ومصر) وقد تميز الحزب بعلاقاته المتميزة مع »الإدارة البريطانية« .. اما الحزب الجمهوري فقد أُنشئ في نوفمبر 1945م بواسطة محمود محمد طه وآخرون حيث دعا الحزب إلى (6) نقاط كان أهمها قيام حكومة سودانية جمهورية ديمقراطية حُرة مع المحافظة على السودان بكل حدوده الجغرافية التي كانت قائمة آنذاك .. وفي ديسمبر 1951 م أعلن عن قيام حزب جمهوري إشتراكي وجاء في البند الثاني من دستوره أن أغراض الحزب هي استقلال السودان التام بحدوده الجغرافية وقيام جمهورية اشتراكية مستقلة .. اما مجموعة الأحزاب الاتحادية فهي مجموعة أحزاب كانت تدعو للاتحاد مع مصر عند توقيع إتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان وتضم تلك الأحزاب (حزب الأشقاء جناح الأزهري وحزب الأشقاء جناح نور الدين وحزب الاتحاديين وحزب وحدة وادي النيل وحزب الجبهة الوطنية وحزب الأحرار الاتحاديين) وقد توحدت تلك الأحزاب في حزب واحد بإسم الحزب الوطني الاتحادي نتيجة وساطة قادها الرئيس المصري آنذاك محمد نجيب في فبراير 1953م وذلك ضمن مساعي ثورة 23 يوليو المصرية حيث كانت تعتقد أن هذا التوحيد سيحسم معركة تقرير المصير لصالح خيار إرتباط السودان بمصر .. وقد نص دستور الحزب الوطني الاتحادي على أن هدف الحزب هو إنهاء الوضع الحاضر وجلاء الاستعمار الأجنبي وقيام حكومة سودانية ديمقراطية في إتحاد مع مصر وتحدد قواعد هذا الاتحاد بعد تقرير المصير .. ولا عجب أن تفكك الحزب الوطني الاتحادي بدأ بخروج الجبهة الوطنية من الحزب وبدأ إختلاف الأحزاب الاتحادية يتزايد ولم يقتصر على نوع الاتحاد مع مصر بل تعداه إلى صدق التوجه الاتحادي فبالنسبة لحزب وحدة وادي النيل كان الاتحاد مع مصر »عقيدة« سياسية وأما لحزب الأكثرية الجماهيرية هو حزب الأشقاء جناح الأزهري فقد كان الاتحاد مع مصر مجرد أداة للتخلص من الحكم البريطاني .. وبذلك فقد الحزب الوطني الاتحادي ثلاثة من مكوناته عندما تحول من مبدأ الاتحاد مع مصر إلى الاستقلال التام والمكونات الثلاث هي حزب وحدة وادي النيل، وحزب الأشقاء جناح نور الدين، وحزب الأحرار الاتحاديين ..
وتجئ الأحزاب العقائدية لتدخل معترك الحياة الحزبية وقد مثلتها بقوة الحركة السودانية للتحرر الوطني (الحزب الشيوعي فيما بعد) وتبنت شعار الحركة المصرية للتحرر الوطني الداعي للكفاح المشترك للشعبين المصري والسوداني وحق الشعب السوداني في تقرير مصيره وقد وصف »عبدالخالق محجوب« شعار وحدة وادي النيل بأنه تعبير عن العجز السياسي والاقتصادي للطبقة الوسطى السودانية أكثر منه تعبيراً عن رغبة الجماهير في التحرر من عنف الاستعمار .. أما النقيض للحزب الشيوعي اليساري كان جماعة الأخوان المسلمين التي رفضت دعوة الاتحاد مع مصر لأنها قامت على العاطفة الجامحة ولم تكتمل لها عوامل النضج ولأن الارتباط مع مصر يعني الارتباط بالحكم العسكري الذي حدد موقفه من الصراع العالمي ووقف بجانب الغرب .. اما النقابات والتنظيمات المهنية التي ظهرت في ممارسة الحياة السياسية كجسم جديد غير الأحزاب السياسية فبرز العمل النقابي العمالي حيث كان أقوى الاتحادات النقابية العمالية هو إتحاد نقابات عمال السكة حديد والذي كان أفراده في مركز حيوي شديد الأهمية بحكم أن نظام السكة حديد كان ضرورياً لاستمرار حياة البلاد وقد كانت تلك النقابات بطبيعتها الوطنية معادية للنفوذ البريطاني بالسودان .. وقد إستعملت سلاح الإضراب عن العمل ومثل ذلك التنظيم النقابي أكبر سياسة عدائية للاستعمار واعتبره البريطانيون تنظيم متطرف يتزعمه قادة اليسار الشيوعي ونظموا عدداً من الإضرابات التي أدت إلى شلل العمل وأوصلت السودان إلى حالة من شبه التأزم الاقتصادي ..
*في خضم تلك التباينات في الرؤى نشأت الصراعات السياسية بين الأحزاب السودانية الناشئة وخاصة بين الحزبين الكبيرين (الأُمة ، الوطني الاتحادي) وقد قال في ذلك السير (جيمس روبرتسون) الحاكم العام (نحن نأمل أن يتوضح موقفنا ومركزنا السياسي والدستوري إلى درجة أننا نستطيع الاستمرار وإجراء الانتخابات المطلوبة ولكن »حسب قوله« سيظل السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني يمثلان خطراً كبيراً على السودان بحكم التنافس »الشخصي والطائفي« فيما بين الاثنين) .. وفيما بدا أن الأحزاب الاتحادية تتلقى الدعم من مصر ويتولى البريطانيون دعم زعيم حزب الأُمة السيد عبدالرحمن المهدي وظهرت خلافاتهما في نتائج التصويت للاستقلال مقابل الوحدة مع مصر بفارق ضئيل جداً وقد إستطاع الحاكم العام أن يتجنب إتخاذ إجراء حاسم لصالح حركة الاستقلال متذرعاً بضآلة الفرق في عدد الأصوات .. ذلك أن عدم الحسم في التصويت كان إشارة واضحة وحقيقية أنه لا أحد في السودان آنذاك ولا في العقود الستة التي تلتها سوف يتمتع بمركز الأغلبية الواضحة في البلاد وهذه مأساة الاحزاب السودانية التي ظلت تعاني منها والتي تمثلت في خلل النشأة والارتباط بالآخر دون تحديد هوية سودانية خالصة تعبر بها عن رؤاها المستقبلية ..