سأتناول في هذه السانحة خطاب الرئيس من منظور المرتكزات والمفاهيم والمعاني التي وردت في الخطاب ، محاولا الإجابة على ما إذا كان الخطاب جله أو بعضه ثورة وحركة تصحيحية ، أم هي مرحلة انتقالية ، أم شىء من هذا وشىء من ذاك ، وسأبدي بعض الملاحظات بهدف الاصلاح ، وأبدأ وأقول إن مرتكزات الخطاب جاءت في ثلاثة محاور شملت القضايا السياسية ، والقضايا التنفيذية ، والمشاركة الوطنية ، وسألقي الضوء عليها هنا بإيجاز :
(1) في محور القضايا السياسية
أولا : اعترف الخطاب ، والإعتراف فضيلة وسبيل للاصلاح ، بالأزمات التي حركت الشارع وتداعياتها ، وكفل الخطاب حق الحراك السلمي في التعبير عن مطالب المتظاهرين وطموحاتهم المشروعة وفي حدودها المضمنة في القانون.
ثانياً: استجاب الخطاب للمبادرات التي طالبت بوقف اللجوء للتعديلات الدستورية منها مبادرة تحالف قوى 2020 ، أو تلك التي طالبت بحكومة انتقالية ، بل وشجع الخطاب مثل تلك المبادرات الوطنية في المستقبل ، من أجل المساهمة في البناء الوطني ، وتفاعل الرئيس مبدئياً مع ذلك الحراك بحل حكومات الولايات واستبدالها بحكومات عسكرية ، وحل حكومة الوفاق الوطني ، على أن تقوم مقامها حكومة كفاءات ومهام ، ونأمل أن تشمل معايير الاختيار للمناصب الدستورية في هذه الحكومة ، من جملة ما تشمل ، أن لا يكون شاغل الوظيفة قد ارتكب أو حامت حوله شبهات فساد مالي أو اداري أو أخلاقي أو ثراء حرام أو تمكين للأقارب والمحاسيب ، وأن يقسم الوزير قسماً غليظاً على إبراء الذمة ، على أن يراجع ذلك كل ستة أشهر ، وأن لا يكون المرشح من الذين أدمنوا السلطة في الانقاذ ، مع تجنب الترهل والمحاصصات واحتكار الحزب الحاكم للسلطة.
ثالثاً : التزم الرئيس بالوقوف على مسافة متساوية بين القوى السياسية حكماً عادلا منصفاً للجميع لا متحيزاً ولا منحازاً لحزبه ، وقد أصبح الحزب هو الدولة ، وأن يمنع تسخير ولاة الولايات لامكانات الدولة لمصلحة الحزب ، وما يبشر بالأمل هو أن الولاة ليسوا رؤساء المؤتمر الوطني ، نأمل أن يكونوا وطنيين ، وأن يؤدوا القسم على ذلك لاظهار الجدية في التكليف وبناء الثقة بين مكونات القوى السياسية.
رابعاً : كما تطرق الخطاب لمسألة وأهمية الاستقرار السياسي ، وهذا لا يتم إلا باجازة الدستور الدائم للبلاد ، وإجراء انتخابات بقانون تتفق علية القوى السياسية كلها ، وتجري انتخابات شفافة بمراقبة القوى السياسية والمجتمع الدولي ، ليتحقق المشروع الوطني في تحول ديمقراطي وتداول سلمي للسلطة ، ويؤدي كل ذلك في المحصلة النهائية لتوافق وطني وتنمية وازدهار واستقرار.
خامساً : شمل الخطاب أهمية تحقيق السلام المتعثر منذ عشرات السنين ، والمطلوب الآن إرادة حقيقية من السلطة في سلام عادل ومستدام ، وأن تلتزم السلطة بتنفيذ ما يتم التوقيع عليه من اتفاقيات ، وأن تعالج قضايا السلام من المنظور السياسي وليس من أبعادها الأمنية ، وقد تأسس مجلساً للسلام حسب توصيات الحوار الوطني ويقع على عاتقه تحقيق السلام ، وعلينا ألا نترك السلام في يد المجتمع الدولي والاقليمي ولبعض اللجان المحلية ، علماً بأن بعض الحركات المسلحة جاهزة للسلام اليوم قبل غد ، والبروفيسور هاشم علي سالم الأمين العام للحوار الوطني على علم بذلك ، ونأمل أن يعطي مشروع السلام أولوية في تنفيذ المخرجات.
سادساً : أعطي الخطاب دوراً مهماً للمؤسسة العسكرية في ادارة البلاد بحسبانها حامي حماة الوطن والمؤتمنة على الإنضباط الاداري وسرعة الإنجاز ، ولكنها ربما ستظل مخلصة لحزبها إلا بأداء قسم غليظ على العدالة بين الجميع ، على أن يسعى المؤتمر الوطني في المستقبل لتنظيف القوات المسلحة من الحزبية والعقائدية والجهوية ، وأن يعود جيشاً وطنياً لا يحمي الأحزاب على حساب حماية الوطن.
سابعاً : لقد أشار الخطاب في عدد من فقراته للوفاق الوطني وهي الركيزة الأهم في العبور لقضايا الاستقرار والتنمية و السلام ، ورغم ما تم من وفاق خلال الحوار الوطني إلا أن ذلك الوفاق لم يعمر إلا قليلا ، وأصبح بعد انتفاضة يناير 2019 أكثر تعقيداًًًً من أي وقت مضى ، لذا ينبغي الوصول لمنتصف الطريق بين مطالب الشارع السوداني ، وما يمكن أن تتنازل عنه السلطة في مراحل تأتي تباعاً لعلاج الأزمة الحالية.
2- ثم المحور الثاني تأتي فيه مخاطبة الجهاز التنفيذي وأقول الآتي
اولا : المعالجات الاقتصادية التي لم تؤت ثمارها بدأت بميزانية 2018 التي رفعت سعر الدولار الجمركي من 6 جنيهات إلى 18 جنيهاً بنسبة 300% ، وأصبح للدولار اليوم السبت 23 فبراير ثلاثة أسعار في ظاهرة الاولى من نوعها ، حيث بلغ سعر البنك للصرافات 47 جنيهاً وسعره الكاش 75 جنيهاً وسعره بالشيك 95 جنيهاً ، وانعدمت السيولة ولجأت الدولة لطباعة النقود رب رب رب ، وسوف لا يتم اصلاح الاقتصاد إلا بالإهتداء بتوصيات الحوار حول الاقتصاد البالغة 640 توصية أولها فصل وزارة التخطيط الاقتصادي عن وزارة الخزانهة والتي تقع على عاتقها الولاية على المال العام ، في وقت أصبح المال العام مباحاً لمن يستطيع إليه سبيلا .
ثانياً : وابتدر الرئيس حديثه عن تنفيذ مخرجات الحوار ، والمنطق يقول لو نفذت تلك التوصيات لما انهار الاقتصاد أبدأ ، ولو نفذت لتم محارة الفساد وتوقف إهدار مال الدولة ، ولو نفذت مخرجات الحوار لتم الاصلاح المؤسسي وعولجت قضايا التنمية وغيرها ، وقد شملت 960 توصية ، المطلوب لتنفيذ التوصيات سلطة مشتركة من الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي ، ولجان فرعية من قوى الحوار الوطني في كل ملف من الملفات الستة ، تتولى مراقبة التنفيذ مع الجهات ذات العلاقة ، وتقييم مستمر لما يتم إنجازه ، والتبشير بما تحقق وإعلانه للناس .
ثالثاً: طرح الخطاب قيام حكومة تكنوقراط أو حكومة مهام أو حكومة انتقالية ، الاسم واحد والرسم غير ، وأذكر للمناسبة نموذج استقلال الهند عن بريطانيا ، فقد كلف الرئيس المهاتما غاندي رفيق نضاله جواهر لال نهرو أن يشكل أول حكومة ، فجاءه نهرو بالتشكيل ، وقال لغاندي هذه حكومة تكنوقراط ، فأمسك غاندي بيده اليسرى على التشكيلة الوزارية وسلم نهرو بيده اليمنى كشف وزراء الحكومة ، وقال له : لا أريد حكومة تكنوقراط ولكنني أريد حكومة وطنيين ، ونقول نعم نريد حكومة وطنيين لم يتلوثوا بشهوات المال والسلطة والجاه ونريدها بمعايير مدروسة.
رابعاً : وتحدث الرئيس عن مهام جديدة للحكومة ، ونتطلع باهتمام كبير لنرى حكومة ترد المظالم وتحكم بالقسط والقانون ، وتلهم الشعب للأداء والأمانة والإنجاز ، وتكون قدوة للجهاز التنفيذي كله ، حكومة تحترم الوقت والبرامج والمساءلة ، وتعيد الأموال المنهوبة ، وقانون طوارىء ليس لارهاب المواطن بل لمحاربة الفساد والمفسدين وتمكين القانون واصلاح المجتمع.
3 - ثم المحور الثالث من مرتكزات الخطاب شمل المشاركة والشورى والوحدة .
أولا : قال االرئيس إن مسؤولية بناء الوطن هي مسؤولية الجميع وليست حكراً على حزب ، وهذا أمر مهم ، فقد ظل الحزب هو الدولة والدولة هي الحزب ، فاختلط الحابل بالنابل ، وضاعت البلد وضاع المواطن ، ونتمنى أن تنطلق مسؤولية المشاركة في السلطة من قاعدتها في المحليات وفي الولايات والمركز وجميع المؤسسات التنفيذية والتشريعية والعدلية والاقتصادية والاجتماعية حتى تصبح مشاركة حقيقية وليست مشاركة صورية.
ثانياِ: ورفع الخطاب راية الشورى والتشاور والوفاق وهي تطلعات أكد عليها الحوار الوطني ونأمل أن يتجاوز الأمر الشعارات إلى التنفيذ على أرض الواقع.
ثالثاً : دعى الخطاب لمشاركة الجميع في الحلول وهذه واحدة من ذبده ما ورد من مرتكزات الخطاب ، وهذه المشاركة تحتاج لآلية للتنفيذ ينبغي مشاركة الآخر في طرح كيفية هذه المشاركة.
رابعاً : وشدد الخطاب على وحدة الأمة والوطن والتي تأتي بالإعتراف بالآخر وبحقة الأزلي في بناء وطنه وحفظ حقوقه ، وبتطبيق القانون والعدالة على الجميع دونما إقصاء ، وبسط الحريات وتكافؤ الفرص في جميع المجالات ونبذ القبلية والجهوية التي مكنتها الانقاذ حتى أصبحت جزءاً في وثيقة تعريف المواطن.
خامساً: لقد إنحاز الخطاب للشباب ودورهم المامول في بناء الوطن ، والمطلوب استراتيجية لبناء شباب مؤهل علمياً ونفسياً و وطنياً للقيام بمسؤولياته في بناء مستقبل أمته و وطنه.
وأخلص إلى قناعات أرى فيها أن الخطاب ، يمثل حركة تصحيحية من ناحية ، ومرحلة انتقالية من ناحية أخرى ، يستطيع المؤتمر الوطني عبورها بالمشاركة الواسعة من الجميع.