الأربعاء، 1 مايو 2019

مقالات:سيرة عمر بن سعيد.. (المذكرات الوحيدة باللغة العربية لعبد أمريكي المعروفة حتي يومنا)


البحث في تاريخ العبودية بقدر ما فيه من مشقة ذهنية لكنها أقل بكثير من الهزات النفسية التى قد تعتري الباحث في خضم إبحاره في منعرجات التأريخ.
 قبل يومين وأنا أقرأ التعقيدات التى كانت تصاحب تطبيق قوانين إلغاء الرق في كثير من البلدان لتُحقق ظاهريا إنجازاً أخلاقيا للأنظمة الاستعمارية الحاكمة وفي ذات الوقت تطيل أمد العبودية للعبيد الذين تم تحريرهم إسمياً، إصطدمت بمعلومات غريبة كبلت عقلي عن المواصلة في القراءة.
في بعض الدول الإسلامية لم يصبح العبيد أحرارا لمجرد صدور قرار من الدولة يقضي بذلك لكن كان علي العبد أن يرفع قضية للمحكمة يطالب فيها بحريته والتى لم تكن تُمنح له إلا إذا أثبت للمحكمة أنه لا يملك فقط مسكناً ولكن أيضاً يملك وسيلة للعيش. وإستثني من قرار إلغاء العبودية السراري، واللائي لم تصدر قرارات بمنحهن الحرية الا بعد عقدين أو اكثر، وأيضا عبر تعقيدات قانونية في نهايتها تلتزم السرية أن تتنازل عن حضانة أبنائها اللائي أنجبتهن من سيدها وتتنازل عن حقها في أى نفقه منه. مما جعل أغلبهن يبقين في العبودية مدي الحياة. 
غرابة هذه القوانين والنظم التى كانت تصدر عنها تبعث غباراً من التساؤلات عن طبيعة مجتمعاتنا، لأجيال قليلة سابقة، والتى كنا نعتقد اننا نعرفها جيدا، لقلة الذي تعلمناه عنها في مناهجنا الدراسية وما كان متاحاً لنا في صغرنا من أدبيات. 
ربما تكون عبودية الأفارقة في امريكا الشمالية هو الأشهر وتاريخها الأكثر سبراً، لكن لا يزال الكثير من تاريخ العبيد في امريكا مجهولاً. 
ظهور سيرة ذاتية في 2017 والتى أصبحت حاليا من مقتنيات مكتبة الكونجرس، لرجل مسلم من قبيلة الفولا [فولانى] ولد في قرية فوتا تورو في السنغال في حوالي 1770.  قُتل والده وهو في سن الخامسة فنزحت الأسرة إلى منطقة أخري. يقول صاحبها عمر بن سعيد انه أمضي  اغلب حياته طالبا للعلم الي ان (جاء جيش كبير وقتل الانسان كثير)  وقُبض عليه فيها (1807) وهو في السابعة والثلاثين من عمره وبيع الى رجل أخذه الى (سفينة كبيرة) أبحرت به في (البحر الكبير) إلى الدنيا الجديدة حيث بيع وعاش فيها عبدا. 
قصة ابن سعيد تضحد الكثير من الفرضيات التى ترسخت عن العبيد في شمال أمريكا أنهم كانوا أناساً من مجتمعات بدائية ليست لهم عقائد أو معارف أو تعليم. يقول صاحب المذكرات انه بيع لرجل شرير إسمه جونسون عامله بفظاظة لسنوات فهرب منه لكن قبض عليه في كارولينا الشمالية ووضع في السجن حيث بدأ يكتب علي حائط سجنه بلغته العربية مما أثار إليه الإنتباه فاشتراه جيمس أوين شقيق حاكم ولاية كارولينا الشمالية.  إهتمام جيمس أوين واسرته بإبن سعيد تضمن رغبتهم فى ان يعتنق المسيحية، فاهدوه إنجيلا باللغة العربية مع مرور الوقت إعتنق المسيحية وتم تعميده عام 1821 (لكن راعي كنيسته والباحثون لاحقاً يقولون ان كتاباته عن الاسلام تؤكد انه ظل مسلما) وفي الستينات من عمره كتب مذكراته بلغته العربية، والتى بطبيعة الحال لم يفهمها أسياده، مما جعلها أصيلة لم يكن للأسياد فيها تأثير أو حذف أو تعديل كما حدث للعديد من مذكرات العبيد الامريكيين والتى حذفت منها (آلية الأسياد الفكرية) الكثير من القصص، من ضمنها أن 20% من العبيد الذين جلبوا إلى أمريكا كان مسلمين. 
ابن سعيد عاش في منزل حاكم ولاية كارولينا الشمالية، جون أوين، حتي وفاته عام (1864) وهو في الخامسة والتسعين من عمره.  ورغم انه كان قد وجد هناك معاملة نسبياً أفضل، لكنه مات عبداً ولم ينعم بالحرية مرة أخري، وقبل عام واحد فقط من إلغاء العبودية رسمياً في أمريكا .
يقول الباحثون بمكتبة الكونجرس أن ابن سعيد قبل وقوعه في العبودية، كان بالإضافة إلى ثرائه، علي قدر عال من التعليم. وقد خضعت مذكراته للكثير من البحث وتمت ترجمتها ونشرت في الانترنت. 
يبدأ ابن سعيد مذكراته بالبسملة والصلاة علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعدها يكتب (تبارك الذي بيده الملك وهو علي كل شئ قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.)
قراءة المذكرات وتأمل الكلمات والخط الذي كُتبت به ينقلك إلى عالم عمر بن سعيد ورحلة إنتزاعه من بيئته الآمنة ونقله الى دنيا غريبة، والكرب الذي عاشه في الدولة التى أسست إقتصادها علي إستعباد الأفارقة  وأضحت اليوم أثري واقوي دولة في العالم.