اختار شباب الثورة وصفا لأنفسهم بأنهم (شباب راكب راس) وكان قديما يقال للذي يتمسك بموقفه، ولا يقدم أي تنازلات، ولا تراجع يقال له، (راكب راسو) وكان وصف (راكب راس) التي أطلقها شباب الثورة علي أنفسهم، كان أصدق وصف لهم، ولو لم يكونوا (راكبين رأس) لما نجحت الثورة من بعد التدخل الحاسم للمؤسسة العسكرية السودانية، ومن بعد توفيق الله تعالي، الذي أعمي بصيرة قادة النظام السابق، الذين لم يضعوا في حساباتهم، صمود الثائرين، فلم يستجيبوا لكل المبادرات التي طرحت عليهم، وكنت شخصيا قد قدمت أكثر من مبادرة علي مدار عامين متواصلين، ولم أكتف بكتابتها في الصحف، وذكرها في الفضائيات عبر برنامجي الأسبوعي في فضائية الخرطوم (أوراق) وبرامج أخري كنت ضيفا عليها، فدعوت رئيس النظام السابق أكثر من عشر مرات لأن يقود حملة للتبرع للحكومة من منسوبي حزبه الذين أثروا في هذا العهد، وأن يبدأ ذلك بنفسه وعشيرته الأقربين، وكتبت عدة مقالات في هذا الخصوص أشهرها واحد بعنوان (الضايقين حلوها.. مرها ضوقوهو) واوصلت هذه المقالات لرئيس النظام السابق، وإلي كثيرين من المقربين له، ولما انطلقت مظاهرات ديسمبر الأخيرة دعوته للاستجابة لها، واقترحت عليه حل الحكومة، وكل أجهزة الحكم في البلاد، وتكوين مجلس رئاسي انتقالي لمدة عامين يشرك فيه قوي الثورة الفاعلة، والمعارضين غير المشاركين في الحكم، والحركات المسلحة غير الموقعة علي اتفاقيات سلام مع) الحكومة، وكتبت ذلك في مقال، واوصلته له، لكنه لم يستجب، ولعله لم يكن يعلم أن الشباب (راكب راس).
العنصر الثاني المهم في هذه الثورة، وإن لم يتفوق علي الآخرين في نجاح الثورة، لا يقل عنهم، وهو المؤسسة العسكرية بمكوناتها المختلفة، الجيش والشرطة والأمن والدعم السريع، فهؤلاء كان دورهم عظيما في نجاح الثورة، وفي تفوقها علي كل الثورات، التي قامت في السودان قبل ذلك، وكل ثورات الربيع العربي، فلما قصدت الجماهير الثائرة القيادة العامة للقوات المسلحة صبيحة السادس من أبريل ذكري ثورة رجب أبريل 1985م، والتي قضت علي نظام مايو بعد سنوات حكم دام ستة عشر عاما، فلما قصدت الجماهير القيادة وهي تهتف (جيش واحد شعب واحد) أحسن الجيش استقبالهم، ولم يعترض طريقهم، وتركهم يعتصمون في حرم القيادة رغم أن الاقتراب من الأماكن العسكرية يعتبر من المحرمات قانونا وعرفا، ولكن الجيش اعتبر أجواء الثورة تبيح المحظورات، فتركهم يقيمون، ويعسكرون، بل عمل علي حمايتهم، وتصدي لمحاولات تخويفهم والاعتداء عليهم، وبادل المعتدين إطلاق النار، وأصيب بعض أفراده في ذلك، لكنه صمد في حماية المحتمين به من الثائرين، ولما أراد حزب المؤتمر الوطني، ومشاركوه من الأحزاب المتحالفة معه تسيير موكب مضاد للثورة، اجتمعت اللجنة الأمنية المكونة من الجيش والشرطة والأمن الوطني، والدعم السريع، وأوقفوا هذه المسيرة، وعندما قرر النظام السابق فض الإعتصام بالقوة مهما كان الثمن بناء علي توجيه، رأس النظام عمر البشير، اجتمع قادة القوات الأمنية، واتفقوا علي خلع رئيس النظام السابق، وحل كل أجهزة حكمه، وكذلك حزبه، ففعلوا ذلك وسط دهشة الرئيس المخلوع الذي لم يكن يتوقع ذلك أبدا، وكونوا مجلسا عسكريا يتولي نقل السلطة من النظام المباد إلي نظام منتخب شعبيا، بعد فترة انتقالية اتفقوا أن تكون عامين فقط، تدير خلالها شؤون البلاد حكومة مدنية يختارها الثوار، ويكتفي المجلس العسكري بضبط الأمن وتمثيل السيادة القومية بحكم تكوين المؤسسات العسكرية القومي.
يحمد للمجلس العسكري أنه رغم استماعه لكل الرؤى ووجهات النظر المختلفة، من كيانات وأفراد لشكل الفترة الانتقالية، وآليات الحكم خلالها، حتى وصل عدد ما استلمه من تصورات المائة مقترح، لكنه أثبت لقوي الحرية والتغيير، الحق في تشكيل أجهزة الحكم القادم، وترشيح من يتولون الحكم، وبرغم أن شباب الإعتصام والذين بمثلونهم في المفاوضات ظلوا (راكبين راس) ويرفعون سقوفاتهم، إلا أن المجلس العسكري ظل دائما يستجيب، ويستجيب، حتى اعتبر البعض ذلك ضعفا منه، لكنني أراه في مقام (أم الولد) فهي لم تتخل عن وليدها للأخري من ضعف، ولكنها فعلت ذلك لتحافظ علي حياة ابنها، وهكذا كان يفعل المجلس العسكري، وأحسب أنه قد جاء الوقت الذي يشاركه فيه الطرف الآخر ذات الإحساس، وهم مثله (أم الولد) واعتقد أن الطرح الأخير للمجلس العسكري لمجلس السيادة معقول جدا، ولقد قبل بإدخال ثلاثة مدنيين، وأقترح أن يكون هؤلاء الثلاثة في مكان الذين بادروا وقدموا استقالاتهم من المجلس حفاظا علي حياة الولد، ويكون واحد من هؤلاء الثلاثة نائبا للرئيس مع السيد حميدتي، ويقدم بعد ذلك ممثلوهم في اللجنة المشتركة مرشحيهم لمنصب رئيس الوزراء من أجل أن يتحرك مركب الثورة، بالمقدافين الأساسيين، المجلس العسكري، وقوي الحرية والتغيير ومن معهم، وبالله التوفيق والسداد.