السبت، 2 مارس 2019

مقالات: قراءة استراتيجية لحكم العسكريين في السودان «1»

القوات المسلحة في دول العالم الثالث تلعب دورا بارزا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ففي مجال الحكم نجد أن أكثر من ثلثي دول العالم الثالث البالغ تعدادها مائة دولة تقريبا قد شهدت انقلابات عسكرية أو تدخلا عسكريا بصورة ما ويجب هنا التفرقة بين الانقلابات العسكرية والوسائل الأخرى التي يمكن عن طريقها الاستيلاء على السلطة السياسية مثل التمرد والعصيان والثورات والحروب الأهلية .. أما الانقلابات العسكرية فتعني أن تقوم القوات المسلحة معتمدة على ما لديها من أدوات الردع بالاستيلاء على سلطة الحكومة بصورة مفاجئة .. للقوات المسلحة مواردها الخاصة التي تمكنها من التحرك للاستيلاء على السلطة في الوقت المناسب فهي تمتلك أنواعا مختلفة من الأسلحة والمعدات والمتحركات ووسائل الاتصال التي تمكنها من التنسيق بين الوحدات .. ويمكن القول بأن هناك نوعين من الانقلابات العسكرية الاول أن يقوم الجيش كله بالتحرك للاستيلاء على السلطة حسب أوامر القائد العام ويكون التحرك في هذه الحالة عملية سياسية وليست حربية ويطيع الجنود الأوامر التي تصدر إليهم لأن مخالفتها تعد خرقا للانضباط العسكري .. والثاني أن يقوم بعض الضباط بالاستيلاء على السلطة وإبعاد كل القيادات الموالية للحكومة ويعتبر في نظر الحكومة تمردا ويعتبر الجنود مخالفين لأسس الانضباط العسكري ..
* يعمد العسكريون بعد استيلائهم على السلطة إلى تكوين مجالس عسكرية لمباشرة المهام التشريعية والتنفيذية ريثما تستقر الأوضاع وهناك ثلاثة أنواع من المجالس الاول مجلس أغلبيته من العسكريين مع وجود رمزي للمدنيين والثاني مجلس مختلط من العسكريين والمدنيين والثالث مجلس عسكري مع وجود حكومة مختلطة.
السودان كأحد دول العالم الثالث مارس فيه العسكريين السلطة السياسية عبر الانقلابات العسكرية وحكموا البلاد في فترات حكم أطول مقارنة مع فترات الحكم المدني التي مرت على البلاد هذا إضافة إلى مشاركة العسكريين في العمل السياسي عبر بوابات الحكم المدني حيث تقلد الكثير منهم مناصب سيادية داخل مؤسسات الحكم المدني وخير دليل على ذلك تولي الإميرلاي عبد لله بك خليل منصب رئيس الوزراء في فترة الحكم المدني الأول وهنالك خلفية تاريخية في السودان لتدخل القوات المسلحة في العملية السياسية والتطورات الدستورية بالبلاد حيث كانت التنظيمات العقائدية السودانية تركز على مداخل التأثير السياسي في القوات المسلحة من خلال الاستقطاب العقائدي لطلاب المدارس الثانوية المتقدمين لدخول الكلية الحربية السودانية كما كان السياسيون وقادة الأحزاب وكبار الموظفين المسيطرين على الأوضاع السياسية والاقتصادية يستوعبون أبناء الأسر الموالية لانظمة الحكم المختلفة في الكلية الحربية الى ان اصبح الاستقطاب السياسي المباشر للقوات المسلحة مباحا خاصة بعد فترتي المصالحة الوطنية 1977م والانتفاضة الشعبية في 1985م .. وتعد فترة حكم العسكريين بالسودان الأطول من غيرها »اذ بلغت جملتها  حوالي 53 عاما« إذا ما تمت مقارنتها مع حكم المدنيين وقد استلم العسكريين السلطة بالسودان عبر اربع حقب تاريخية ..
*جاء الحكم العسكري الأول 1958م عندما أراد عبد الله بك خليل رئيس مجلس وزراء الحكومة المدنية الأولى بعد الاستقلال أن يقطع الطريق أمام الجمعية التأسيسية (البرلمان) في نوفمبر  1958م حتى لاتسحب الثقة من حكومته وقد كان هو أيضا مهددا بالإبعاد عن سكرتارية حزب الأمة نتيجة للصراعات الحزبية والفوضى السياسية التي سادت في تلك الحقبة فسعى بمبادرة منه إلى قيادة الجيش لتسليم السلطة وإعادة تشكيل مجلس السيادة واختيار حكومة قومية يشارك فيها الجيش .. ولكن قيادة الجيش رأت أن تتحمل المؤسسة العسكرية وعلى مستوى قيادتها العليا المسؤولية كاملة في تسيير أمور البلاد .. ففي 17 نوفمبر 1958م أعلنت قيادة الجيش عن تشكيل مجلس أعلى من كبار العسكريين بقيادة الفريق إبراهيم عبود القائد العام لقوات الشعب المسلحة وقد وعد البيان الأول لثورة نوفمبر بإصلاح أداة الحكم وإشراك المواطنين في حكم البلاد توطئة للوصول إلى الوضع الدستوري الذي يلائم طبيعة البيئة السودانية ويجنب البلاد النظم المستوردة .. وقد أصدر السيدان علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي بياناً باركا فيه الانقلاب مما أضفى عليه نوعاً من الشرعية في أيامه الأولى .. وعلى المستوى الشعبي كان هناك نوع من الارتياح تعبيراً عن عدم الرضا من أداء الحكومات الحزبية السابقة وتأكيدات الفريق عبود بأن القوات المسلحة ستعود إلى ثكناتها بعد عودة الاستقرار السياسي والاقتصادي المطلوب فما أن تم إستيلاء الجيش على السلطة حتى تم تعليق الدستور الانتقالي وحل البرلمان وعُطِّلت جميع المؤسسات الديمقراطية في البلاد .. وأعلنت عن تشكيل حكومة تضم عسكريين إضافة إلى مدنيين من التكنوقراط استطاعت رغم العزلة السياسية أن تحقق انجازات اقتصادية وخلقت علاقات متوازنة بين دول المعسكر الشرقي والغربي والدول العربية ودول الجوار وعلى مستوى المشاركة الشعبية كون النظام لجنة بمسمى لجنة التطورات الدستورية تعنى بقيام مجلس شعبي مركزي تكون عضويته بالانتخاب والتعيين وقد شهدت فترة الفريق عبود استقرارا وزارياً  امتد لست سنوات تشكلت خلالها حكومتان فقط هما الحكومة الأولى نوفمبر 1958م واستمرت لثلاثة أشهر فقط،  والثانية في فبراير 1959م واستمرت لخمس سنوات وثمانية أشهر، وهي أطول فترات الاستقرار في الحكومات الوزارية السودانية .. وقد واجهت الحكومة العسكرية الأولى برئاسة الفريق إبراهيم عبود عدداً من الصراعات المدنية والعسكرية على الحكم فبجانب إعلان معارضة الصادق المهدي من حزب الأمة للنظام واعتقال عدد من السياسيين بينهم محمد أحمد المحجوب وعبد الخالق محجوب وأحمد سليمان ونقد لله حيث تم نفيهم إلى جوبا بجنوب السودان في يوليو 1961م إنطلقت منذ وقت مبكر في مطلع مارس 1959م طموحات بعض العسكريين للاستيلاء على السلطة عبر الانقلابات العسكرية فقامت ثلاث محاولات انقلابية من داخل الجيش الاولى في مارس 1959م بواسطة العميد عبد الرحيم شنان والعميد محي الدين أحمد عبدلله حيث حركا قوات عسكرية وحاصرا منزل الفريق عبود بالقصر الجمهوري فرضخ الفريق عبود لمطالبهما وتم تعيينهما أعضاء بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم مما أحدث شرخاً في تكوين المجلس خرج على إثره بعض الأعضاء احتجاجاً على تعيين (المتآمرين) بدلاً من إنزال العقوبات العسكرية عليهما .. والثانية محاولة العميد محي الدين أحمد عبد لله الذي لم يكن قانعاً بمقعد في المجلس الأعلى فحسب حاول الانقلاب على السلطة في مايو 1959م حيث تم إفشال المحاولة واعتقاله ومعه العميد عبدالرحيم شنان وحوكما بالإعدام إلا أنه لم ينفذ وتم تخفيض الحكم إلى السجن عشرين عاماً .. والثالثة محاولة خمسة ضباط صغار في مدرسة المشاة العسكرية بأمدرمان بمحاولة عصيان وتم القبض عليهم وحكم عليهم بالإعدام وتم تنفيذ الحكم .. من اكبر التحديات التي واجهها عبود حدوث تمرد عسكري جديد في 1963م بجنوب السودان عبر حركة الأنانيا التي كانت في شكل سلسلة مجموعات متمركزة بشكل رئيسي في مواقع محلية مختلفة للقيام بحرب عصابات طويلة الأمد وبدأت بالفعل في مهاجمة أهداف عسكرية عديدة ففي يناير 1964م قامت الحركة بمحاولة لاحتلال مدينة واو وفشلت خطتها .. وبعد سنة من ذلك قررت حكومة الفريق عبود طرد جميع رجال الدين الأجانب ومعظمهم من المبشرين الانجليكانيين والروم الكاثوليك من جنوب السودان لأنها كانت تعتقد أنهم سبب في إشعال الثورة فتركت هذه الخطوة أثراً معادياً للحكومة في أوساط الدول الأخرى .. وبالرغم من عدم استقرار الأوضاع في الداخل فقد توصل نظام عبود إلى اتفاقية مع مصر حول مياه النيل وتسلم السودان 150 مليون جنيه تعويضاً له عن الأضرار التي ألحقها إنشاء السد العالي بالأراضي التي غمرتها المياه مقابل تهجير 150 ألف شخص من وادي حلفا إلى أماكن أخرى لم تغمرها مياه السد العالي .. ومن الناحية الاقتصادية فقد شهدت البلاد دخول المعونة الامريكية وحققت الحكومة انجازات تنموية غير مسبوقة.