السبت، 20 أبريل 2019

مقالات:تأملات:ديسمبر.. عبقرية الشعب والثورة


بلغت الأوضاع في السودان قبل الثورة درجة من السوء والتوتر لم تبلغه من قبل، لا في عهد الإنقاذ الماضي، ولا في أي عهد غيره، ومع ذلك كان كل السودانيين علي درجة عالية من التفاؤل بأن هذا الحال البائس سوف يتحول إلى أحسن حال، دون أن يعلم أحد منهم، كيف ولا متى، ولكنها ثقة السودانيين في أنفسهم من بعد ثقتهم بالله عز وجل. 
أتيحت فرص عدة للرئيس الأسبق عمر البشير لقيادة تحول تاريخي في السودان، كان أشهرها ما تيسر له في مطلع يناير عام 2014م، حينما طرح مبادرة للحوار الوطني ارتضتها أغلب القوى السياسية في السودان، ولكنه ظل يستجيب لألاعيب بعض قادة حزبه، الذين يلتفون على كل قرار، ويجردونه من معانيه، حتى فقد الحوار معناه، وتحول إلى مجرد محاصصات في الحكم عبرت عنها الحكومة التي عرفت بحكومة الحوار الوطني. 
الفرصة الأخيرة والتي أتت في الدقائق الأخيرة من الزمن الأصلي كانت في خطاب الثاني والعشرين من فبراير الذي أعلن فيه حالة الطوارئ، وأبدي تخلياً عن حزب المؤتمر الوطني ليكون على  مسافة واحدة من الجميع، وحل الحكومة الاتحادية وكل حكومات الولايات، وجمد التعديلات الدستورية، وقال إنه سوف يشكل حكومة كفاءات، ولكن للأسف الشديد أتي بأضعف حكومة في تاريخ الإنقاذ، بل في تاريخ السودان كله، فزاد غضب الناس، وزادت حياتهم ضيقاً، وضنكاً، وبدأوا يتذمرون، إلى أن جاء الإنفجار الذي كان بمثابة أقوى جرس إنذار للحكومة، ألا وهو مظاهرات مدينة عطبرة عاصمة الحديد والنار، وصارت تتوالى بعدها المظاهرات والاحتجاجات حتى عمت جميع ربوع السودان، ورغم أن المظاهرات بدأت مطلبية صرفة، لكنها تحولت إلى مظاهرات سياسية، صار شعارها واحدًا لا شعار غيره، (تسقط بس) ولم ينظر حزب المؤتمر الوطني إلى ما يجري نظرة موضوعية، وبسذاجة متناهية، صمموا شعارًا توهموا أنه يمكن أن يكون مقاوماً لشعار الثورة، فرفعوا شعار (تقعد بس) فتحرك ناشطون وسطيون للبحث عن خيار وسط، بين (تسقط بس) وتقعد بس) وانتظم هؤلاء في مبادرات أوشكت أن تبلغ العشرين، ولعلها قد بلغتها، وكان أصحاب هذه المبادرات يخشون المواجهة التي يمكن أن تقود إلي ما لا يحمد عقباه، وبينما كانت أكثر هذه المبادرات، إن لم تكن كلها تدعو الرئيس إلى الاقتراب من المتظاهرين، وتحقيق شعاراتهم الموضوعية في التغيير، ومحاربة الفساد، ومحاسبة المفسدين، فبدلاً من أن يفعل الرئيس كل ذلك أو بعضه، فعل عكسه تماماً، فعاد إلى أحضان حزبه الذي كان قد بدأ رحلة التحرر منه، واحتمى به، وزاد على ذلك بأن فكر في مواجهة الثائرين، وفض اعتصامهم بالقوة، ويبدو أنه ورجال حزبه لم يكونوا قد علموا حقيقة ما وصلت إليه الثورة، فلم يعد هناك كيان من مكونات السودان لم ينتظم في مسيرة الثورة، ولم يعد يوجد بيت من بيوت السودان يخلو من ثائر، بما في ذلك بيوت الحاكمين أنفسهم، وكانت دائماً ما تنقل وسائط التواصل الاجتماعي صورًا وأحاديث لأبناء ونساء قادة في الحكومة، والمؤتمر الوطني، والأحزاب المتحالفة معه، ودخل إلى ساحة الاعتصام من كانوا بعيدين عن العمل السياسي، فسجلت الساحة حضورًا مشرفاً، لقادة وزعماء الطرق الصوفية، الشيخ الياقوت، الشيخ الكباشي، الشيخ محمد الفاتح الشيخ حسن الشيخ قريب الله، الشيخ أحمد الشيخ دفع الصائم ديمة، وكثير من رموز وقيادات المجتمع الثقافية والرياضية والفنية، الفنان ابو عركي البخيت، الكابتن هيثم مصطفى، وغيرهم، وكان الموقف الأشمخ لقوات الشعب المسلحة، والقوات النظامية الأخرى،الشرطة، والأمن الوطني، والدعم السريع،وكان للقوى الشبابية والقوى الحديثة دور فاعل في تنظيم وتحريك الشارع، لا سيما تجمع المهنيين، وقوى الحرية والتغيير، والأهم في موقف الأجهزة الأمنية، أنها وقفت بكلياتها، وبقادتها، ولم يكن هناك أي تردد، بل كان موقف قادة هذه القوات هو الحاسم للثورة، ولولا هذا الموقف القوي الباكر من بعد فضل الله تعالى لانفرط حبل الأمن في السودان، ولقد قاد هذا الموقف القادة، الفريق أول عوض ابن عوف وزير الدفاع، والفريق أول مهندس صلاح قوش مدير الجهاز الأمن الوطني، والفريق أول شرطة الطيب بابكر مدير الشرطة، والفريق أول محمد حمدان دقلو  (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، ولقد حسموا الأمر خلال أربع وعشرين ساعة فقط، أوقفوا أولاً مسيرة الردع التي كان ينوي تسييرها أهل المؤتمر الوطني ومناصروهم من الأحزاب الأخرى الذين يشاركون معهم في الحكومة عدا المؤتمر الشعبي، ثم ناهضوا محاولة فض الاعتصام بالقوة، وأخيرًا قرروا الانحياز للثورة، والاستيلاء على السلطة استجابة لرغبة الشعب، على أن يردوها لأهلها في أقرب فرصة ممكنة.
ومن عبقريات ثورة ديسمبر المجيدة أنها استوعبت كل أهل السودان، وأنها شهدت تناغماً وتناسقاً فريدًا بين كل مكوناته، وأنها ثورة وطنية شعبية قومية بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان، وهي بذلك تكذب أي إدعاءات تحاول النيل منها، والتقليل من قدرها، وهي في ذات الوقت ستكون عصية على التجيير والانحراف، وأن من يحاول الانفراد بها، أو استثمارها لتحقيق أجندة خاصة، سيجد نفسه خارج منظومتها.