مقالات:ذكرى الإمام الأكبر أحمد بن إدريس..نشوة الروح
الحديث عن الطرق الصوفية في السودان حديث ذو شجون، حيث ينتمي غالبية أهل السودان إلى هذه الطرق للنهل مما تقدمه من سمو روحي إيماني نشأت عليه الشخصية السودانية بالفطرة منذ أمد بعيد. وتدعو كل طرق الصوفية في السودان إلى البعد عن التعصب والتطرف والتشدد الأعمى، ومن هذه الطرق القادرية والسمانية والإدريسية والتيجانية والهندية والأنصارية والختمية والبرهانية والرفاعية. وما دمنا نتحدث عن الطرق الصوفية بالسودان فلا بد من التعرض لأحد النماذج المشرقة وأحد رموز الصوفية في عهدنا الحديث لما جسده من قيم سمحة وأخلاق فاضلة وإرث عظيم عبر نهجه المقتفي لآثار أئمة الإسلام المهتدين ألا هو الشيخ الجليل القطب المجدد السيد الإمام أحمد بن إدريس مؤسس الطريقة الإدريسية. كان الشيخ أحمد بن إدريس أنموذجا طيباً لمريديه وأحبابه، وتعدى تأثيره نطاق الموقع الروحي الذي عاش فيه واجتذب نحوه اتباع طريقته ليصل دائرة واسعة عمت ارجاء السودان. أما عن رحلاته وعلاقاته وصلاته بشيوخ الطرق الصوفية في كل مكان فقد أضحت علماً بارزاً لاتخطئه العين، وامتدت بينه وبين جميع فئات المجتمع اقوى وامتن الصلات، فتجسدت من ذلك خلال سنوات حياته الطيبة والعامرة بالخيرات علاقة مميزة لها رونقها وقوامها احترام الناس الشديد. ونجح الشيخ احمد بن ادريس بمسلكه الفريد باجتذاب الناس الى رحاب المعرفة الصوفية باشراقاتها وتوهجها، ذلك لأنه استمد عمق تجربته من نهج التسامح والتصافي والمحبة الخالصة، وفوق ذلك كله عرفه أهل السودان عالماً متواضعاً كتواضع العلماء الأفذاذ لم يجنح يوماً إلى الغلو أو التشنج ، فنجح في جمع الصف وتوحيد الكلمة..
وعمد دائماً إلى بساطة الشرح لتعاليم الدين مهتدياً بالقدوة الحسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. قال أبو الدرداء: اعلم أن للـه عباداً يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد الأرض، فلما انقضت النبوة أبدل اللـه مكانهم قوماً من أمة محمد صلى اللـه عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة اللـه بصبر من غير تجبن وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم اللـه واستخصلهم لنفسه، وهم أربعون صديقاً أو ثلاثون رجلاً قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون اللـه قد أنشأ من يخلفه، واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئاً ولا يؤذونه ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحداً ولا يحصرون على الدنيا، هم أطيب الناس خيراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً، علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة، ليسوا اليوم في خشية وغداً في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر وهم فيما بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة، قلوبهم تصعد ارتياحاً إلى اللـه واشتياقاً إليه وقدماً في استباق الخيرات » أولئك حزب اللـه ألا إن حزب اللـه هم المفلحون » قال الراوي: فقلت: يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد على من تلك الصفة وكيف لي أن أبلغها؟ فقال: ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا، فإنك إذا أبغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة، وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر ذلك تبصر ما ينفعك، وإذا علم اللـه من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه بالعصمة، واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب اللـه تعالى المنزل » إن اللـه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » قال يحيى بن كثير: فنظرنا في ذلك فما تلذذ المتلذذون بمثل حب اللـه وطلب مرضاته.
اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته. وصلى اللـه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الشيخ القطب المجدد احمد بن ادريس الذي أرسى طيلة حياته معالم الاستقامة والطهر والكرم والأبوة الصادقة، فكان أخاً شفوقاً للكبير وأباً حنوناً للصغير، وقدم في حياته الطاهرة المثال الصادق على إخلاص النية وصدق التوجه وقوة العزيمة. هكذا ذكرى الشيخ احمد بن ادريس الذي عرفته مجالس العلم وساحات التصوف لعقود طويلة كرمز لروح التدين العميق والأصيل في المجتمع السوداني، بما تركه من إرث عظيم عبر نهجه المقتفى لآثار أئمة الإسلام المهتدين الداعين لقيم التدين والتسامح والتصافي بين القبائل والأجناس كافة.